العقوبات أم القنبلة؟
مشكلتنا مع إيران غير مشكلة إسرائيل والولايات المتحدة.وحل مشكلة على حساب أخرى.
لا يوفر أمناً ولا استقراراً لأحد، ولكن يمكن حل المشكلتين معاً.
إيران تهدد بالسعي لإنتاج قنبلة نووية، لسبب وحيد هو أنها تعتبر هذا السلاح أداة ردع لحماية نظامها من نشوب حرب قد تؤدي إلى سقوطه.
كل ما تملكه إيران من قدرات عسكرية هزيل أمام موازين القوى في المنطقة. والمسؤولون الإيرانيون يعرفون أن كل شيء في أنظمتهم الدفاعية يمكن أن ينهار في غضون ساعات من نشوب أي حرب، وفي ظل عزلة داخلية تدفع ملايين الإيرانيين إلى الاحتجاج على سياسات النظام، فإن تفكك مؤسساته القمعية، تحت وطأة انتفاضة جديدة، سيكون أمراً واقعياً إلى حد بعيد.
وجود سلاح نووي، سوف يمنع الولايات المتحدة من المشاركة في أي حرب، وهو ما يوفر لنظام الولي الفقيه ما يحتاج إليه من طمأنينة لكي يواصل سياساته التخريبية في المنطقة.
إسرائيل تنظر إلى وجود قدرات نووية لإيران على أنه يخل بتفوقها الاستراتيجي، لا يوجد سبب أهم من ذلك، فهي لا تعادي إيران كما يعاديها الذين يدفعون ثمن جرائم مليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وهناك لغط إيراني فارغ، حول معاداة إسرائيل وأمريكا، ولكن إيران تمارس ذلك اللغط، لأسباب أيديولوجية، وليس لدوافع عسكرية أو استراتيجية. فمعاداة إسرائيل، بالنسبة لإيران، تفيد غرضاً واحداً هو أن تُضفي على مشروعها الطائفي هدفاً وهمياً على سبيل “التقيّة” والخداع. هدف إيران الحقيقي هو تمزيق دول المنطقة وتدمير مجتمعاتها وتغيير هوياتها وإغراقها بدم أبنائها ونهب ثرواتها وجعلها تخضع لهيمنة عصابات فساد تمارس كل أنماط الجرائم، بدافع الولاء لذلك المشروع.
إسرائيل، بعبارة أخرى، لا تعرف من خطر إيران ما يعرفه العراقيون أو اللبنانيون أو السوريون أو اليمنيون.
ومواجهة “التهديد النووي” الإيراني عن طريق مقايضة العقوبات الاقتصادية بالتوقف عن إنتاج قنبلة نووية، لن يحل مشكلة إسرائيل فعلاً، كما أنه لا يحل مشكلة العراقيين ولا السوريين ولا اللبنانيين ولا اليمنيين، ولا يوفر أي ضمانات بحماية أمن دول المنطقة الأخرى، ولا ممرات الملاحة في الخليج.
لقد كانت الغاية من العقوبات المفروضة على إيران هي إضعاف قدرة إيران على دعم مليشيات الجريمة والإرهاب. الهدف الأبعد، هو إضعاف قدرة نظامها على البقاء.
وبما أن نظام الجريمة والإرهاب هذا لا يمكن أن يتغير، لأن التخريب والتدمير والتمزيق الطائفي جزء من طبيعته، وهو جوهر مبدأه الدستوري لـ”تصدير الثورة”، فإن إسقاطه هو السبيل الوحيد، لاستعادة الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة.
العراقيون والسوريون واللبنانيون واليمنيون سوف يستعيدون حقهم في أوطانهم، وتنكسر شوكة الإرهاب الذي تنتجه تنظيمات ومليشيات الإسلام السياسي، كما تهنأ المنطقة برمتها بالأمن والاستقرار، بما فيها إسرائيل، لقد كانت هذه هي الغاية من فرض العقوبات.
ما يحصل الآن، هو أن إيران تستخدم التهديد النووي، لكي يتم التخلي عن هذه الغاية، ومثلما انزلقت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في مستنقع الخديعة، بزعم كبح المشروع النووي الإيراني، فهناك ما يبرر القلق من أن إدارة الرئيس جو بايدن يمكن أن تكرر الانزلاق نفسه، تحت نفس الذريعة.
المشروع النووي الإيراني الذي عاد ليشكل “تهديداً وشيكاً”، إنما يبرهن للأعمى والبصير على أن خيار إدارة الرئيس أوباما كان فاشلاً من الأساس.
لقد انسحب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، وظلت المساومات قائمة بين إيران والأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق على امتداد السنتين التاليتين، ولكن لم تمضِ الستة أشهر الأخيرة، حتى بدا وكأن إيران أصبحت على “مسافة أسابيع” من الحصول على المواد الكافية لإنتاج أول قنبلة نووية.
ببساطة، هذا يعني أن أي اتفاق لرفع العقوبات عن إيران مقابل “كبح” المشروع النووي، لن يحتاج إلى أكثر من ستة أشهر ليعود فيقلب الموازين من جديد في أي وقت لاحق.
المقايضة نفسها فاشلة، إنها خيار غبي بكل صراحة، لأنها لم توفر أمناً حقيقياً، ولا استقراراً دائماً، ولم تضمن أي شيء.
المسألة ليست أن الرئيس ترامب انسحب من الاتفاق، المسألة هي مسألة الستة أشهر التي عادت فيها إيران لرفع مستويات التخصيب، إنها مسألة الصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية، التي ظل تطويرها يتسارع، كما أنها مسألة التهديدات العدوانية التي ظلت تمارسها إيران من رغم أنف الاتفاق النووي ضد دول المنطقة، وهي مسألة التدخلات في العراق وسوريا ولبنان واليمن التي جعلت الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي مصدراً للكثير من الشرور، كما أنها مسألة الضرر الذي يلحق بمصالح الولايات المتحدة نفسها أيضاً.
إذا كان كل هذا سوف يتكرر، مقابل الانزلاق في المستنقع نفسه، فإن حيازة إيران لسلاح نووي ستكون أقل خطراً من رفع العقوبات عنها.
إيران النووية ليست هي الخطر، وإنما إيران الإرهاب والتهديدات والتوسع وأعمال التخريب وجرائم القتل والفساد التي تمارسها مليشياتها تحت غطاء ديني.
لو شاء الولي الفقيه أن يفطر ويتعشى بصحن يورانيوم مخصب كل يوم، فليتفضل. لا يشكل ذلك مشكلة حقيقية للتوازنات الاستراتيجية، وهو خيار لا يُخيف أحداً بالفعل. المشكلة هي أنه يفطر ويتعشى بجثث ضحايا يتم قتلهم كل يوم، بمن فيهم أبناء شعبه.
الاتفاق النووي وفر الفرصة لإيران للحصول على المال من أجل تغذية الإرهاب والجريمة وتهديد استقرار المنطقة، وتوفير الفرصة لإيران من جديد لا يحل المشكلة، بل يزيدها سوءاً.
أولاً، لأن التهديد بالعودة إلى الوقوف على “مسافة أسابيع” سيظل قائماً. وثانيا، لأن الجرائم الأخرى سوف تتغذى بالمزيد من القدرة على الاستمرار.
وإذا شئت أن تفاضل بين المشاكل، فالقنبلة ليست هي المشكلة. السلوك العدواني هو المشكلة.
الولي الفقيه يعرف ماذا يعني التهديد النووي. يعرف ببساطة، أنه ليس تهديداً من جانب واحد. ولذلك، فإن الحماقة لن تذهب به إلى حد استخدامه، ولا حتى التلويح به، ولكنه يعرف في المقابل أنه يريد تخفيف العقوبات عن نظامه لكي يواصل تهديداته وأعماله العدوانية الأخرى.
وتملك كوريا الشمالية قنابل نووية كثيرة، وهو ما يدفع إلى السؤال: نعم، وماذا بعد؟
فهذا البلد لا يحرك مليشيات في كوريا الجنوبية، وليست لديه منظمات إرهاب تمارس نشاطات في اليابان، والعقوبات ضده لا تزال صارمة، رغم أنه أقل شراً من نظام إيران.
ما يستطيع أن يُدركه العاقل، هو أن أي صفقة، تمنح نظام الولي الفقيه قدرة أطول على البقاء، سوف تمنحه نصراً، وكل قرش يحصل عليه سوف يذهب لتمويل الإرهاب ويزعزع الاستقرار أكثر، وهذا ما لا يحقق مكسباً حقيقياً لأحد.