سياسة

إيران.. أزمة ثقة وليست أزمة برنامج


لعل من أبرز النجاحات التي حققتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مجال السياسة الخارجية، والتي تعنينا نحن بشكل مباشر في منطقة الشرق الأوسط، هو تبنيها منذ أيامها الأولى، رؤية شاملة ومغايرة لطبيعة الخطر الإيراني.

هذه الرؤية لم تكن مغايرة فقط لرؤية الإدارة الأميركية التي سبقتها برئاسة أوباما، ولكنها جاءت مغايرة أيضا لرؤية الشركاء الأوروبيين، هذه الرؤية التي يمكن القول إنها تحولت بعد نحو عامين من وصول ترامب إلى سدة الحكم في واشنطن إلى استراتيجية شاملة وشبه متكاملة للتعامل مع إيران.

ولعل منبع التغاير هنا هو النظر إلى طبيعة الخطر الإيراني نظرة أوسع كثيرا من موضوع الملف النووي، نظرة لا تحصر الخطر في شقه النووي فقط، ولكنها تضع في الحسبان جميع تجليات السلوك الإيراني العدائي في المنطقة كتدخله في شؤون دول المنطقة وتهديده لأمن الحلفاء التقليديين لواشنطن ودعمه لميليشيات مسلحة وجماعات إرهابية.

فبعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي المعيب مع إيران في مايو 2018، تلاه إعلان وزارة الخارجية الأميركية عبر المتحدثة باسمها أن بلادها بصدد تشكيل تحالف دولي ضد إيران بهدف “مراقبة النظام الإيراني من خلال منظور أكثر واقعية، ليس من خلال منظور الاتفاق النووي فقط، بل من خلال كل أنشطته المزعزعة للاستقرار التي لا تشكل تهديداً للمنطقة فحسب بل للعالم أجمع”، ثم جاءت الشروط الاثنا عشر التي أعلنها وزير الخارجية مايك بومبيو في خطابه الأول حول السياسة الخارجية الأميركية وجعل تنفيذها من قبل إيران شرطاً لتطبيع العلاقات معها.

في هذا الخطاب لم يشأ بومبيو أن يغلق الباب أمام إيران بالمطلق، وأبدى انفتاحاً مشروطاً إزاء النظام الإيراني، قائلاً إنه مستعد للتفاوض معه على “اتفاق جديد” أوسع بكثير من اتفاق 2015 ولكن أكثر صرامة بهدف تغيير سلوك النظام، قائلاً إنه في مقابل القيام بتغييرات كبيرة في إيران فإن الولايات المتحدة مستعدة لرفع العقوبات في نهاية المطاف وإعادة جميع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إيران.

ما يلفت النظر في قائمة الشروط هذه التي طرحها بومبيو أن البرنامج النووي لإيران لم يستحوذ سوى على 3 بنود فقط تعلقت بوقف تخصيب اليورانيوم وتقديم تقرير لوكالة الطاقة الذرية حول البعد العسكري للبرنامج، ومنح مفتشي الوكالة إمكانية الوصول إلى كل المواقع في البلاد، فيما ركزت 9 بنود على سلوك إيران المزعزع لأمن واستقرار المنطقة ودورها في تأجيج صراعات الشرق الأوسط وتهديد أمن واستقرار دول الجوار، وبرنامجها للصواريخ الباليستية.

يعكس هذا في تقديري قناعة أميركية بأن مشكلة إيران مع المجتمع الدولي ليست في برنامجها النووي، المشكلة في مشروعها وسلوكها، مشروع توسعي يسعى للتمدد في المنطقة بجميع الطرق والوسائل غير المشروعة والدخول في تحالفات مذهبية، ودعم جماعات إرهابية، وسلوك مزعزع لأمن واستقرار دول الجوار، وما البرنامج النووي إلا أحد تجليات هذا المشروع وأحد مظاهر هذا السلوك.

فلو كانت إيران دولة طبيعية تحترم جيرانها ولا تتدخل في شؤونها ولا تتآمر عليها ولا تذكي نار الصراعات الطائفية والمذهبية في المنطقة ولا تسعى لتصدير ثورتها المزعومة لما أثار برنامجها النووي هذا القدر من الشك والريبة، رغم تفانيها وتفاني حلفائها في الدفاع عن سلميته، فهناك دول كثيرة من بينها الهند وباكستان طورت برامج نووية لكنها لم تثر حفيظة المجتمع الدولي، وهناك دول عربية كدولة الإمارات العربية المتحدة تطور برامج للطاقة النووية لأغراض سلمية، لكنها تحظى بثقة المجتمع الدولي.

إذن فالأزمة الحقيقة هنا أزمة ثقة، فممارسات النظام الإيراني جعلته معدوم الثقة، فلا أحد يثق في سلوك النظام الإيراني ولا يثق بالتالي في تعهداته، خاصة إذا كان هذا النظام ثيوقراطياً عقائدياً لا يتورع عن فعل أي شيء تحت شعار الدين وخلف ستار الجهاد في سبيل الله، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية.

إدارة ترامب أدركت هذه الحقيقة وتصرفت بناء عليها، حقيقة أن خطر إيران في سلوكها ومشروعها وليس فقط في برنامجها النووي، لذا سعت لصياغة مقاربة شاملة تتعامل مع المشروع الإيراني برمته وليس فقط مع تجلياته النووية، ولهذا لم تكتفِ واشنطن بالانسحاب من الاتفاق النووي لكنها اتبعت ذلك بخطوات أكثر أهمية، عناصر هذه المقاربة بدت كافية وجيدة إلى حد كبير لكن القدر ومزاج الناخب الأمريكي لما يمهلا ترامب وإدارته لإكمال ما بدأه في تحجيم الخطر الإيراني برمته لا أحد تجلياته فقط.

لكن ما تزال أمام ترامب أسابيع قليلة قبل انعدام سلطته ومغادرة مكتبه يستطيع أن يسدي فيها هو وإدارته خدمة جليلة لمنطقة الشرق الأوسط بأن يدرج ميليشيا الحوثي في اليمن على قوائم الإرهاب، فمن شأن هذه الخطوة أن تحجم من خطر إيران بتحجيم أهم ميليشياتها، ومن شأنها أن تسهل عملية إحلال السلام في اليمن. وقتها يحق لفريق السياسة الخارجية في إدارة ترامب أن يفخر بما قدمه في هذا الملف الشائك.

ويبقى استكمال المهمة على إدارة بايدن التي أسدت لها إدارة ترامب خدمة جليلة بالانسحاب من الاتفاق النووي المعيب مع إيران، وهي خطوة ما كان سوى ترامب يمكن أن يتخذها، وأعطتها فرصة التوصل إلى اتفاق جديد شامل وعادل ويراعي مخاوف جميع الأطراف لا مصالح طرف واحد، اتفاق يعالج مجمل التهديدات الإيرانية وليس فقط ملفها النووي ويجبرها على تغيير سلوك نظامها.

وهنا يبقى السؤال: كيف يكون مصير هذا “الاتفاق الجديد” الذي ستسعى إدارة بايدن للوصول إليه أفضل من مصير سابقه الذي انسحبت منه سالفتها؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بسؤال آخر أكثر أهمية وهو: “من سيشارك واشنطن في عملية “التفاوض الجديدة” مع إيران حول هذا “الاتفاق الجديد” المتوقع؟

مرد هذين السؤالين في رأيي أن ما أفشل اتفاق 2015 وأوصله إلى هذا المصير الذي انتهى إليه هو أن من تفاوض حوله كانت الأطراف المستفيدة منه وليست الأطراف المتضررة منه ومن سلوك إيران ومشروعها التوسعي، فدول أوروبا الرئيسية التي شاركت في عملية التفاوض نظرت إلى الاتفاق على أنه فرصة اقتصادية بالأساس، فإيران لم تشكل بالنسبة لها أي تهديد، لذا بذلت محاولات يائسة لإنقاذ هذا الاتفاق المعيب للإبقاء على تعاونها الاقتصادي مع إيران وإنقاذ استثمارات شركاتها هناك.

وفي واشنطن كانت لدى أوباما وإدارته مقاربة مثالية ساذجة للتعامل مع الخطر الإيراني تعتمد بالأساس على “احتواء إيران” ومن ثم كان يرى أن توقيع اتفاق تاريخي معها يمكنها أن يجعلها أقل خطراً، وربما كان أوباما أيضاً يسعى إلى مجد شخصي، فقد أراد أن يثبت أنه يستحق جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها قبل أن يبدأ مهام عمله، لذا أحاط نفسه بمؤيدين لإيران ولتطبيع العلاقات معها، وعلى رأسهم روبرت مالي الذي عينه أوباما في مطلع ولايته الثانية مسؤولاً عن سوريا والعراق وإيران في مجلس الأمن القومي. وكان قبل توليه منصبه دائم الانتقاد لأوباما لأنه لم يأخذ بجدية “خيار الاحتواء” في التعامل مع إيران، وكان دائماً ما يشير إلى أن النقاش حول التعايش مع إيران نووية لم يأخذ مساره الكامل ولم ينل نقاشاً كافياً”.

إذن.. كانت هناك أطراف مستفيدة من اتفاق 2015 سعت لتبريره وقتها وسعت لإنقاذه وقت أن قررت واشنطن الانسحاب منه، لذا تفاوضت سريعاً لإنجازه للانتقال لحصد مكاسبه، ولعل هذا ما أدى في النهاية إلى “تمزيقه” دون أن تتحقق أي من الأهداف المبتغاة من إبرامه.

منطق الحوار والتفاوض على قاعدة برغماتية بحتة أساسها الاستفادة يجب أن يتغير في “الاتفاق الجديد” الذي تسعى الإدارة الأميركية للتوصل إليه، فإذا كان هذا الاتفاق يسعى لمعالجة مجمل السلوك الإيراني المزعزع لأمن واستقرار المنطقة وليس فقط برنامجها النووي، فإن المنطق يقتضي أن تشارك في الحوار والمفاوضات حول هذا الاتفاق الدول المتضررة من هذا السلوك وهي كثيرة، فإيران لا تزال تحتل جزراً عربية، ولا تزال صواريخ ميليشياتها الباليستية تصل إلى عاصمة الحكم في واحد من أهم البلدان العربية، ومحاولتها العبث بأمن واستقرار البحرين لم ولن تتوقف، ناهيك عن تدخلها السافر في شؤون العراق واليمن وسوريا ولبنان.

وفي ظني أن هذه الصيغة التفاوضية التي تصبح فيها الأطراف المتضررة جزءاً رئيساً من المعادلة هي وحدها الكفيلة بالوصول إلى اتفاق عادل يراعي مخاوف جميع الأطراف وليس فقط مصالح طرف واحد.

نقلا عن سكاي نيوز عربية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى