سياسة

العرب والعثمانيون والغرب


سيطرت عقلية الأزمة -في القضايا الداخلية والخارجية- على تفكير الإنسان العربي، إذ لا يكاد يخرج من أزمة حتى يواجه بأخرى، ولا يكاد يلتقط الأنفاس بعد معركة -حقيقية أو متوهمة- حتى يُفرض عليه خوض أخرى -سواء واقعية أو محض خيال.

ونظراً للطبيعة الشاعرية للعقل العربي، وسيطرت فلسفة الشعر على أسس تفكيره، عادة ما يكون رفضه للواقع مصحوبا بصناعة واقع آخر من خيال -جميل أو غير جميل- المهم أنه واقع في عالم المُثل لا علاقة له بالواقع الحقيقي المعيش.

بسبب كل ذلك كثيراً ما يكون اقترابنا من الأزمات اقترابا غير واقعي، أو اقترابا يبعدنا عن الفهم أكثر مما يدنينا منه، وذلك يمكن إرجاعه لأسباب أربعة تشكل وعينا، وتحدد رؤيتنا، وتحكم منهج تحليلنا، وطريقة فهمنا. أولها: فهم وتحليل الأحداث لا طبقا لمعطياتها الواقعية، وتشكلها الحقيقي، وإنما طبقا للصورة الذهنية عنها، أي تحليل الأحداث كما هي داخلنا، لا كما هي خارجنا، ومن ثمّ تغليب الخيال، والتصورات على الحقيقة، والعواطف على الوقائع، والإغراق في شاعرية سياسية غائبة عن الواقع، بل أحيانا مناقضة له، كأن يُنظر مثلا إلى الدولة العثمانية على أنها كانت حامية للدين، وحارسة للعرب من أن يقوم الغرب بمحو هويتهم، وتحويلهم عن الإسلام عنوة؛ كما حدث في الفلبين مثلا، أو أن ينظر إليها على أنها كيان شيطاني منع التقدم عن العرب تعمداً، وأغلق عليهم أبواب الحضارة مع سبق الإصرار والترصد؛ فكل هذه تصورات تغلب عليها العواطف النابعة من مواقف أيديولوجية؛ تتخندق في مواجهات نخبوية محلية.

وثانيها: الواحدية والحدّية في الرؤية والفهم الحكم، حيث إما أن تكون مع أو ضد، وعلى طول الخط، وبدون فرصة للمراجعة أو التراجع، فإما أن نؤيد الدولة العثمانية ضد العالم الغربي، وضد الأرمن والروس والمسيحيين في الشام، وإما أن نؤيد كل ما قام به الغرب، وروسيا ضد الدولة العثمانية. وثالثها: الانبهار بالظاهر والانعماء عما يكمن خلفه من جوهر وحقيقة، فلا نرى في الدولة العثمانية إلا أنها هزمت الأوروبيين الاستعماريين أعداءنا التاريخيين، وهددت عواصمهم، وانتقمت لنا منهم.

ورابعها: التفكير البراجماتي قصير الأجل، الذي يتطابق في كثير من أبعاده مع مجرد بادي الرأي، دون إمعان تفكير، أو إنعام نظر في مجريات الأحداث لنصل أبعادها الزمانية وتداعياتها المستقبلية، إذ إن ما يحدث الآن ليس أكثر من بذر لبذور ظواهر دولية ومحلية معينة، سوف تُؤتي ثمارها وتُخرج أكلها سواء رضينا حينذاك أم أبينا، سواء قاومنا أو خضعنا، إذ إن موقفنا سوف يكون في موضع رد الفعل؛ لا الفعل، والانفعال بالشيء لا فعله، فكل الجدل حول الدولة العثمانية في المشهد الثقافي العربي الحالي ليس سوى لعبة سياسية لتمرير مشروع العثمانية الجديدة، وإعادة وضع الأتراك في قلب التفكير العربي؛ سواء المؤيدين لها، أو المعارضين، لأن إعادة طرح التاريخ العثماني بكل أبعاده، وبغض النظر عن الموقف منه، يعيد القضية التركية، والمشروع الإمبراطوري للعثمانيين الجديد إلى بؤرة الاهتمام في العقل العربي، متزامنا مع الدراما، وإعادة إحياء العمارة العثمانية، والتدخلات التركية في العالم العربي.

ومن هنا فإنه إذا استطعنا تجاوز تلك الأبعاد الأربعة، فسنرى أن تاريخنا مع الدولة العثمانية والغرب لم يتم النظر إليه في وقائعه الحقيقية، ولم يتم تقييمه كما حدث فعلا، وإنما تم تناوله كوسيلة في حروب أيديولوجية بين نخب مثقفة، توظف التاريخ لترسيخ مواقف سياسية معاصرة، وتعيد رسم التاريخ، وتعيد تشكيله من أجل تأكيد موقف معين، أو رؤية معينة، أو الانتصار لقضية معينة، فأولئك الذين يناصبون العداء لكل التيارات والأحزاب العربية التي تدعو للحداثة والعصرنة، والاستفادة من التجربة الأوروبية، أو تقليدها، هؤلاء يوظفون التاريخ الوهمي المتخيل للدولة العثمانية في هذه المعركة الأيديولوجية الداخلية، ويضفون عليها كل صفات القداسة والإسلامية، وأنها كانت امتداداً أميناً للخلافة الإسلامية التاريخية، وأنها حفظت الدين، وحافظت على وجود العرب.. إلخ. وهذا كله محض خيال تم توظيفه للانتصار لموقف معين ضد خصوم داخليين من القوميين والليبراليين واليساريين. وخير مثال على هذا التيار ما كتبه أستاذ التاريخ في جامعة عين شمس الدكتور عبدالعزيز الشناوي في كتابه ذي المجلدات الثلاثة المعنون: “الدولة العثمانية.. دولة إسلامية مفترى عليها”.

وفي المقابل نجد أن الذين أرادوا الانتصار للفكرة القومية، أو التيارات الحداثية سواء الليبرالية، أو اليسارية يصبون جام غضبهم على الدولة العثمانية، ويحولون تاريخها إلى مأساة بكل معنى الكلمة، ولعل معظم إسهامات مدرسة الدكتور محمد أنيس التاريخية تصب في هذا الاتجاه.

ثم جاء التوظيف السياسي لتاريخ الدولة العثمانية على يد جماعة الإخوان ونظام أردوغان، من خلال إضفاء هالة من التزييف، والاختلاق، والادعاء، تم تسخير كل قدرات الدولة التركية في العقدين الأخيرين لتمرير صورة مثالية لدولة هي في حقيقتها امتداد إمبراطوري للدولة الرومانية بكل ما تعنيه من وحشية وقسوة وتوسع استعماري، وذلك من أجل تجريف الثقافة العربية، ومحو ذاكرة العرب للقبول بالعثمانية الجديدة… (وللحديث بقية).

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

Related Articles

Back to top button