سياسة

العراق ثقافة وليس شيئاً آخر

فـاضل السلطـاني


لا تتعبوا أنفسكم كثيراً، فلن تجدوا العراق في المنطقة الخضراء، حيث يتحصن السياسيون منذ ما يقرب من عشرين سنة، بل في نقيضها التاريخي… مقهى الشابندر، ومقهى «قهوة وكتاب»، وشارع المتنبي، ومعارض الكتب المتزامنة في النجف والبصرة والسليمانية، وأخيراً في بغداد، التي ملأ شبابها وشاباتها ساحة معرض العراق الدولي للكتاب الذي نظمته مؤسسة المدى. لم يكن الأمر نزهة، أو قضاء وقت في أروقة المعرض وأجنحته، بل كنت تراهم يملأون حتى قاعات المحاضرات، وإذا تعذر ذلك، يتجمعون بالعشرات أمام الشاشات الكبيرة في ساحة المعرض لمتابعة الندوات الفكرية والأدبية.

إنه التعطش للمعرفة وسط الخراب العراقي الشاسع منذ 2003، وما قبله من عقود طويلة كالحة.

ولكن العراق لم يكن طوال تاريخه سوى ثقافة. ويمكن القول بشبه اطمئنان إنه مدين ببقائه كعراق لثقافته… وليس لنفطه، وفراتيه، ونخله.

لسبب ما، ربما عائد لخصائص طبيعية وتاريخية معينة، يمتاز بها كل شعب عن غيره، نشأت في البلد، في عشرينيات القرن الماضي، حركة ثقافية متقدمة قياساً بالبلدان المحيطة الأخرى، استطاعت أن تؤسس بشكل متين لحد ما للمراحل التي أعقبتها، وترسّخ تقاليد لم يعد بالإمكان التراجع عنها، بل عرفت زخماً متزايداً في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، بشكل خاص. ومع الزمن، شكلت هذه الثقافة وجداناً وطنياً يمكن أن نقول إنه كان جامعاً بين العراقيين، وخلقت رموزها أيضاً. وهي رموز قلما تجد العراقيون يختلفون عليها، بطوائفهم ومذاهبهم وقومياتهم، من الرصافي والزهاوي إلى الجواهري والسياب وعلي الوردي وعبد الجبار عبد الله وغيرهم. على العكس من الحالة الثقافية، لا توجد في العراق عموماً شخصيات سياسية جامعة، بل شخصيات متخندقة حول العشيرة والعائلة والطائفة، تستند إليها وتستمد قوتها منها. وكان الأمر كذلك منذ تأسيس المملكة العراقية عام 1932. على يد فيصل الأول، الذي حاول أن يشكل من العراقيين أمة واحدة، وهي الشرط الوحيد لتأسيس دولة حديثة. مات الملك كمداً في مستشفى في سويسرا.

إن البنية الثقافية، والإرث الروحي، يحتاجان دائماً إلى تغذية مستمرة في ظل نظام اجتماعي وسياسي سليم. وهذا لم يتحقق قط في تاريخ العراق الحديث. ليس هذا فقط، بل إن الثقافة والسياسة فيه يسيران في اتجاهين عكسيين دائماً، وحين يصطدمان، تبدأ المذاهب الكبرى.

أول إعدام في العراق الحديث عام 1949، كان إعداماً «فكرياً»، ذهب ضحيته رجال لا يمكون سوى أقلامهم و«تنظيراتهم». وفي 1963. زج في السجون عشرات المثقفين العراقيين، من علماء وأكاديميين وشعراء ورسامين، لم يخرج الكثير منهم. أما في 1979. فقد عرف العراق واحدة من أكبر الهجرات الثقافية في القرن العشرين، تذكر بهجرة المثقفين الألمان أثناء الفترة الهتلرية. أغلب المنفيين لم يعد للعراق، وكثير منهم دفنوا في مقابر الدنيا الواسعة، ومنهم الجواهري وبلند الحيدري ومحمد مكية وغائب طعمة فرمان وعبد الوهاب البياتي ومحمود صبري وعلي الشوك، إلى آخر القائمة الطويلة جداً.

لكن هذا الإرث الثقافي والروحي يبقى كامناً عميقاً في النفوس رغم كل شيء. قد يحتجب فترة من الزمن بسبب ظروف معينة، ولكنه لا يموت قط. إنما ينتظر الفرضة الملائمة لينبثق من جديد، كما علمنا التاريخ… قديماً وحديثاً.

الشرق الأوسط

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى