سياسة

العدالة الاجتماعيّة في زمن جائحة كورونا


من بين القضايا الرئيسية التي فرضت ذاتها على طاولة النقاش اﻷممي في الفترة الأخيرة، التبعات الاقتصادية والاستحقاقات المالية.

التي خَلَّفتْها جائحة “كوفيد-19” من ورائها، والتي يمكن أن تظهر كذلك في المستقبل القريب، وتتسَبَّب في أزمات تتجاوز خطوط العدالة الاجتماعيّة في توزيع الثروات، إلى انتشار المزيد من اﻷوبئة ومن غير مقدرة حقيقيّة على مواجهتها.

أحدثتْ الجائحة حالة غير مسبوقة من اختلال التوازن في توزيع الثروات حول العالم، وهذا أمر مثير للشفقة، فقد أفقرت الفقراء وزادتْهم فقرًا، وفي الوقت عينه راكم الأغنياء ثرواتهم، لا سِيّما أولئك الموصولة أعمالهم بدائرة الذكاء الاصطناعيّ، والتي كانت آليّاتُها المَنْفذَ الوحيد للبشر في التعاطي حول العالم بعد الحَجْر القَسْريّ الذي ضرب بقوة وألزم ملايين البشر البقاءَ وراء الجدران.

قبل بضعة أيّام، تَحَدَّثَ الأمينُ العامّ للأمم المُتَّحدة أنطونيو جوتيريس عن الثروات التي تراكمت لدى أكبر 10 أثرياء في العالم خلال فترة أزمة فيروس كورونا، وكيف أنّها ستكون كافية لتمويل التطعيم ضِدّ الفيروس لجميع البشر.

جوتيريس كان يشير إلى تقرير مُنظَّمة “أوكسفام” البريطانيّة، الذي ظهر الأسبوعَ الماضي، وهي مُنظَّمَة غير حكوميّة. وقد أظهر أنّ “اﻷموال التي تراكمتْ لدى المليارات الـ10 الكبار في العالم خلال اﻷزمة ستكون كافية للحيلولة دون انزلاق أحدٍ إلى الفقر جَرَّاءَ الوباء”.

وبِلُغة الأرقام التي لا تكذب ولا تتجَمَّل، فإنّ ثروةَ هؤلاء العشرة قد زادتْ بقيمة 540 مليار دولار، فيما ازدادتْ ثروةُ جميع المليارديرات بنحو 3.9 تريليون دولار خلال الفترة من 18 مارس إلى 31 ديسمبر.

السؤال الذي يحتاج إلى قراءة مستقِلَّة، رُبَّما نتوَقَّف معها في قادم الأيّام هو: كيف حدث ذلك ولماذا حدث؟ وهل يُؤَكِّد على أن هناك خللاً في نظام العدالة الاجتماعيّة؟ ورُبَّما يحتاج عالمُ ما بعد بريتون وودز إلى إعادة هيكلة في ظِلِّ الاختلال الواضح والفاضح بين عالمَيْن: عالم الذين لا يجدون ما ينفقون، وعالم الذين لا يجدون فيما ينفقون.

لم يتوَقَّفْ رصدُنا عن تقرير “أوكسفام” بل امتَدّ إلى البيانات الصادرة عن منظَّمَة العمل الدوليّة والذي صدر في 25 يناير 2021. وهي مفزعة في حقيقة الحال، بل مفزعة وترتبط بفقدان الوظائف؛ إذ أكَّدتْ أنّ ما لا يقلّ عن 225 مليون وظيفة بدوام كامل قد اختفَتْ على مستوى العالم العامَ الماضيَ بسبب الجائحة، أي أكثر بأربع مَرّات من خسائر الوظائف الناتجة عن الأزمة الماليّة العالميّة عام 2009.

التفصيلة اﻷكثر هَلَعًا المرتبطة بهذه اﻷوضاع الظرفيّة التي اتّسمتْ بانتشار الجائحة، هي أنّ “خسائر الوظائف قد أثَّرتْ بصورة جائرة على الوظائف منخفضة الأجر”، التي تتطلَّبُ مهارات محدودة، اﻷمر الذي يُنذِر بخطر انتعاش غير متكافئ يُفضِي إلى استمرار انعدام المساواة في السنوات المقبلة.

ما الذي تعنيه القراءة المُتقَدِّمة؟

 باختصار غير مُخِلّ، تفيد بأنّ مستويات الفقر العالميّ سوف تتصاعد، والتعافي عند طبقات العُمّال والمقهورين سوف يأخذ أوقاتًا أطول، ما يعني أنّ علامات القلق سوف تزداد، بل الضغائن الاجتماعيّة سوف تتراكم. وهناك ما هو أشَدّ هولاً، ذلك أنّ الجائحة في ظلّ الاضطراب الماليّ العالميّ سوف تزيد، بشكل رهيب، المشاعر العنصريّة والشوفينيّة، ولن تُضْحي القِصّة صراعًا بين شمال غنِيّ وجنوب فقير، بل مواجهة داخل أُطُر الرأسماليّة ذاتها، والتي انقسمَتْ فيها بلدانُ النيوليبراليّة المتوَحِّشة إلى مليارديرات ومديونيرات إن جاز التعبير.

تُفيد بياناتُ منظمة العمل الدولِيّة بأنّ أسواق العمل العالميّة سوف تشهد اضطرابًا غير مسبوق، وأن النساء والشباب هم الأكثر تأثُّرًا، فعلى الصعيد العالمي شهدَتْ النساء خسارة وظيفيّة بنسبة 5% عام 2020، مقابلَ 3.9% للرجال، اﻷمر الذي يعني أنّ قضية “الجِنْدر” لا تزال قائمةً، ووَاهِمٌ مَن يظنّ أنّها قد اختفت من على سطح اﻷرض.

ماذا عن الجانب اﻵخر من العدالة الاجتماعيّة التي تكاد تنهار في العام الأخير حول العالم؟

في حديثه الأخير لمجلة “فورين بوليسي” اﻷمريكيّة ذائعةِ الصيت، حَذَّر المديرُ العامّ لمنظمة الصحّة العالميّة، “تيدروس جيبريسوس”، من تنامي ظاهرة القوميّة العنصرية المتّصلة بأزمة الجائحة وتوزيع اللقاحات حول العالم.. ما الذي يعنيه هذا الحديث؟

الشاهد أنّ أصواتًا عديدة ارتفعَتْ خلال الشهرَيْن الماضيَيْن، تطالب بوقف تصدير لقاحات كورونا من الدول المنتِجَة إلى خارجها. وهنا لم يكن الخارج قَصْرًا على جنسِيّات مُعَيَّنة أو قومِيّات بذاتها، بل أيّ شعب آخر خلا الجماعة البشريّة التي أنتجت اللقاح، اﻷمر الذي يعني بزوغًا قاتلاً لنزعة عنصريّة شوفينيّة تُذَكِّر بأهوال ما عرفه العالم في النصف اﻷوّل من القرن العشرين.

هنا يمكن للمرء أن يتساءل: هل ما يحدث كفيلٌ بأن يُغرِق قاربَ البشريّة في يَمِّ اﻷوبئة مَرَّة جديدةً إن استمَرّ هذا الطرحُ غير الخَلاق والمزدوج المسار ما بين ثروات متراكمة كفيلة بألا تجعل أحدًا على وجه الكرة اﻷرضيّة من غير لقاح، وبين فقراء سوف يكونون عُرْضةً للمرض والجوع والموت عبر انتشار الأوبئة ذاتها؟

حتمًا، يمكن تشبيه ما يجري مُؤَخَّرًا ببَحَّارة على قارب في وسط اللجج، بعضهم يجدِّف ناحيةَ البَرّ في محاولة لاستنقاذ القارب، والبعض اﻵخر يُجَدِّف لجهة عمق البحر عينه، ما يجعل الخيار اﻷقرب هو غرق القارب بمن عليه.

 هذا بالضبط هو حال البشريّة، إذ إنّ ضعف التعاون في توزيع اللقاحات لسبب اقتصاديّ من الذين يخشَوْن على ثرواتهم، أو عنصريّ من النفر المؤمنين بحَقِّهم وحَدّهم في الحياة والموت لغيرهم، سوف يؤدّي إلى مزيد من انتشار الوباء بسبب غياب التطعيم، هذا الانتشار سوف يسمح بشكل قاطع للفيروسات بأن تتحَوَّر وتتعَدّل وتخلق من ذاتها نماذج مُعَدَّلة تحتاج إلى لقاحات جديدة سوف تُرغِم اﻷغنياءَ على إنفاق ثرواتهم طوعًا أو قَسْرًا، وتجعل من أنصار القومِيّات الضارّة الضحايا المتقدّمين للأنواع الجديدة من الفيروسات القاتلة.

تُظهِر البياناتُ الخاصّة بإنتاج اللقاحات المضادّة لكورونا أنّ البلدان الغنِيّة التي تضمّ 16 % فقط من سكان العالم قد قامت بشراء أكثر من 60% من إنتاج شركات لقاحات كورونا، ما يعني أنّ الفقراء وأقنان الأرض ليس لهم أحدٌ يذكرهم.

مخطئةٌ البشريّةُ حين تظنّ أنّها يمكن أن تهرب من مصائر قدريّة عبر دروب اﻷنانيّة، ولو مضت في طريق النرجسيّة المستنيرة لربّما قُدِّرَ لها الفكاك من الوباء الفتاك، بمعنى أنّ اﻷغنياء يتحَتَّم عليهم الاهتمام بالفقراء حَتّى لا يقعوا هم أنفسهم ضحايا في نهاية المشهد.

ذكرنا يوم اﻷخُوّة الإنسانيّة العالميّ نهارَ الخميس الماضي بأنّ التعاون والتضامن ومنظومة اﻷخوّة البشريّة هي أفضل طريق للنجاة كجماعة، فيما تسليع الإنسان سيقود للهلاك الجمعيّ.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى