سياسة

الديمقراطية الانتقائية في تركيا


يقر البرلمان التركي قانونا للإفراج عن المجرمين والقتلة واللصوص خوفا من وصول فيروس (كوفيد-19) إليهم. ويترك في السجون المعارضين السياسيين ومعتقلي الرأي، لعل الجائحة تلتهمهم ويختفون من طريق الرئيس رجب طيب أردوغان. هو حكم مبطن بالإعدام يترك للوباء تنفيذه ساعة يشاء، وإن لم يفعل تتكفل سوء معاملة الأمن وجدران المعتقلات الباردة بالمهمة.

لا يعترف البرلمان التركي الذي يسيطر عليه حزب الرئيس أردوغان حزب العدالة والتنمية بسجناء الرأي والمعارضين. جميع من استثناهم قانون الإفراج برأيهم هم معتقلون بتهمة الإرهاب. وهذا لا يترك مجالا لإدانة البرلمان. خاصة عندما تقارنه ببرلمانات دول أخرى مثل المملكة المتحدة يوشك برلمانها أن يلغي قانون الإفراج المبكر عن المعتقلين بتهم الإرهاب.

المشكلة فقط هي أن البرلمان التركي لا يجتهد في البحث عن تعريف محدد للإرهاب يمكن من خلاله أن يميز بين الذين ينتمون لجماعة إرهابية ومن يمارسون حقهم في معارضة حكم الفرد الواحد في البلاد. بين من شارك في محاولة الانقلاب الفاشلة على الزعيم عام 2016، والمعارضين الذين استغل أردوغان هذه المحاولة الانقلابية لإزاحتهم عن طريقه وتكميم أفواههم.

في الإبقاء على الصيغة الفضفاضة في تعريف أردوغان للإرهاب والإرهابيين، يمارس البرلمان التركي ديمقراطية انتقائية لا تخدم الشعب ولكن ترسخ سلطة الزعيم. وكأن لسان حاله يقول إنه لا ضير في أن يعتقل السلطان نصف تركيا بتهمة الإرهاب، إن كان هذا يبقيه على رأس السلطة ويتيح لحزبه، حزب العدالة والتنمية، الهيمنة على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.

في هذا الاتهام للبرلمان التركي كثير من الحقيقة. فهل يعقل أن يكون عشرات آلاف الأشخاص الذين اعتقلهم الرئيس أردوغان بعد محاولة انقلاب عام 2016 إرهابيين ومتآمرين على أمن الدولة وسلامتها. ألا يستشعر البرلمان خطأ ما في هذا التقييم وهو يسمع كل المنظمات الحقوقية والإنسانية في الداخل والخارج تصرخ وتقول إن في السجون من اعتقلوا ظلما وتعسفا.

منظمتا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرهما كثير من منابر العمل الإنساني عالميا ومحليا، قالت إن السلطات الأمنية في تركيا اعتقلت واضطهدت منذ عام 2016 الآلاف دون مبرر ولا مسوغ إلا معارضتهم السلمية حكم السلطان الجديد. ولكن البرلمان التركي يصم آذانه عن هذه الحقيقة، ويتجاهل أن هؤلاء المعتقلين لا يحصلون حتى على حقهم في المحاكمة.

يخرج أبواق السلطان ليكذبوا ما تدعيه المنظمات الحقوقية بحجة وجود من يعارض السلطان علنا على وسائل الإعلام. وكأن الأمر يتعلق بمن بقي من المعارضين خارج المعتقلات، وليس بمن دخلها. يفاخرون بديمقراطية الزعيم الذي يلجأ إلى البرلمان في كل أمر، ويتجاهلون أن هذا البرلمان بات مستلبا لأردوغان ومتماهيا معه. كما أن عمره ينتهي بزوال أردوغان من السلطة.

منطق حزب العدالة والتنمية تحت قبة البرلمان التركي يعتمد على محددين رئيسيين، الأول هو أن الغاية تبرر الوسيلة والثاني ضرورة الاستمرار في الترويج لفكرة الرئيس البطل المستهدف بمؤامرة خارجية من قبل الحاسدين والرافضين لازدهار الدولة. من هنا يصبح اعتقال كل من يهدد سلطة الزعيم أمرا مشروعا، ويصبح كل ما يقال عن حقوق الإنسان في تركيا زيفا وادعاءً.

يتلمس كثير من أعضاء الحزب هذا المكان الذي انحدر إليه الحزب خلال السنوات الأربع الماضية. يأسفون عليه بعدما فرغ من مضامينه الحقيقية وتحول إلى مجرد فرع تركي لتنظيم الإخوان. الإحصائيات الرسمية تقول إن أكثر من خمسة عشر ألف شخص انسحبوا من عضوية حزب العدالة والتنمية حتى الآن. واستطلاعات رأي حديثة تؤكد أن شعبية الرئيس أردوغان قد هوت خلال تلك السنوات الأربع بأكثر من النصف، فتراجعت من 67% خلال الربع الأول من عام 2016، وصولا إلى 31% في الفترة ذاتها من العام الجاري.

سيخرج أبواق أردوغان ليكذبوا هذه الأرقام، وعندما تسألهم عن قادة في الحزب كانوا رفاقا لأردوغان وانشقوا عنه لسوء إدارته مثل رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو ونائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان سيقولون إنهم جزء من المؤامرة الكونية التي تحاك ضد تركيا. أما تداعيات سياسات السلطان على الاقتصاد فهي برأيهم عقاب دولي على مواقفه البطولية إزاء قضايا تمس السيادة التركية وضريبة على مواقفه “النبيلة” تجاه اللاجئين السوريين.

هذا الاصطفاف الأعمى مع أردوغان وحزبه لا تتقي به فقط خطر الاعتقال في تركيا. وإنما تشق لنفسك عبره طريقا واسعا بين المنتفعين من النظام الحاكم. لا يهمك كم يبلغ عدد سجناء الرأي والمعارضة السياسية حتى نهاية هذا العهد “الميمون”. ولا يهمك إن كان سيلتهمهم الوباء أم لا. فأنت محصن بديمقراطية البرلمان التي للصدفة البحتة فقط تلتقي مع رغبات السلطان ومشيئته دائما.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى