سياسة

الدولة الحديثة وقصة فشلها العربي

عقيل عباس


الدولة الحديثة مفهوم أوروبي بدأ بالبروز في القرن السابع عشر ليترسخ على امتداد القرنين التاليين، الثامن عشر والتاسع عشر.

ارتبط بروز الدولة الأوروبية الحديثة بالتخلص من الحروب الدينية التي استعرت في القرن السادس عشر بعد حركة الإصلاح الديني البروتستانتية والنزاع الذي نشأ بخصوص تمثل الدولة التقليدية، من إمبراطوريات وإمارات وممالك، شكل الحقيقة الدينية المطلق في سلوكها.

جاءت نقطة التحول المهمة عبر الإدراك البطيء، لكن المهم، أوروبيا أن الاختلاف بشأن الحقائق السماوية مفتوح وغير قابل للحسم ويقود إلى نزاع أهلي دائم ودموي غالباً، وبالتالي لا بد من تنحية الخلاف الديني عن الحيز العام وحصره بالحيز الخاص المرتبط بحياة الأفراد الشخصية بعيدا عن مؤسسات الدولة وسياساتها.

من هنا كانت العلمانية وجوهرُها حيادُ الدولة إزاء أديان مواطنيها ومعتقداتهم الايمانية المختلفة من خلال عدم تبنيها معتقداً على حساب آخر واعتبار شرعية الحكم والدولة نابعة من الحقائق الأرضية البشرية، وليست السماوية الدينية، التي يجتمع حولها ساكنو المكان أو البقعة الجغرافية. من هنا نشأ مفهوم الصالح العام الذي  تتمثل من خلاله مصالح كل فئات المجتمع  عبر مؤسسات الدولة التي تحمي هذه الصالح، وليس مصلحة مجموعة على حساب مجموعة أخرى.

قادَ اعتبار المكان، وليس السماء، مصدراً للشرعية الدولة، من جهة، والحفاظ على المصالح المشتركة  لسكان هذا المكان  معياراً لكفاءة الدولة واحترامها لمواطنيها، من جهة أخرى، الى تشكل مفهوم الوطنية وتعمقه بمرور الزمن. ترافقَ كل هذا مع نمو مؤسسات الدولة واتساع الخدمات التي تقدمها للمجتمع في مجالات كثيرة كالتعليم والصحة والخدمات والأمن، فضلاً عن الحمايات القانونية التي أزالت تدريجياً أشكال التمييز المختلفة التي كانت تفرق بين المواطنين، على أسس عرقية أو جندرية وغيرها، وضمنت لهم التعبير عن آرائهم بخصوص معنى الصالح العام عبر أدوات التداول السلمي للسلطة من خلال العمل السياسي والحزبي والمعارض والتنافس الانتخابي. أدت هذه إلى بروز الديمقراطية وترسخها كآلية لحل النزاع والاختلاف والحفاظ على السلم الأهلي.

استغرقت هذه التجربة نحو قرنين من الزمن وتخللها الكثير من الصعوبات والآلام والدماء والاكتشافات والنجاحات كي تنضج وتصل  إلى نجاحها واستقرارها الحاليين وتتحول إلى مثال عالمي.

في المشرق العربي، كان الأمر مختلفاً جداً. فالدولة الحديثة، مفهوماً وتطبيقاً،  جاءت على نحو مفاجئ وصادم على إثر هزيمة دولة كان معظم سكان المشرق العربي يدينون لها بالولاء على امتداد حكم دام نحو 400 عام. كان ذلك بنهاية الدولة العثمانية بعد هزيمتها أمام الحلفاء، بريطانيا تحديداً، في الحرب العالمية الأولى. بسبب تطورات كثيرة في النظام الدولي في العقدين السابقين على هذه الحرب وفي أثنائها وبعدها، لم يكن ممكناً لدولتي الحلفاء، فرنسا وبريطانيا، اللتين هيمنتا على المشرق العربي بعد هذه الحرب اللجوء إلى سيطرة استعمارية مباشرة كتلك التي كانت سائدة مثلاً في الهند تحت الاستعمار البريطاني والجزائر تحت الاستعمار الفرنسي.

بدلاً من ذلك، عُمد إلى نظام الدول شبه المستقلة مؤقتاً في ظل إشراف أوروبي، فرنسي وبريطاني، لتدريب شعوب هذه الدول الناشئة على معنى الدولة وكيفية إدارتها مؤسساتياً. كان هذا نظام الانتداب الذي مثل منطقةً وسطى بين مفهوم الاستعمار التي ساد في القرن التاسع عشر ومفهوم الاستقلال الذي ساد في القرن العشرين.

برغم كل الشيطنة العربية المعتادة لتجارب الانتداب الأوروبي في المنطقة الذي شمل دول العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين (وهذه الأخيرة كانت رسمياً دولة بهذا الاسم خاضعة للانتداب البريطاني ويُطلق على اليهود والعرب الساكنين فيها تسمية “فلسطينيين”)، ساهمت هذه التجارب في إنشاء مؤسسات دولة، من جيش وقضاء وتعليم وصحة، وبالتالي في إثارة أسئلة المواطنة والهوية والاختلاف.

لكن شابت تجارب الانتداب هذه أيضاً عيوبٌ كثيرة بينها هيمنة المصالح الاقتصادية والجيوبوليتيكية للدول المُنتدبة على الحاجات الحقيقية التي يتطلبها التطور المؤسساتي السليم لشعوب الدول الخاضعة للانتداب.

في آخر المطاف، بنهاية تجارب الانتداب الأوروبي في المشرق العربي بدءاً بالعراق في في 1933 وبقية دول المشرق الخاضعة هذا النظام بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت هناك، أسسٌ معقولة لدول لها قابلية التطور كي تصبح دولاً رصينة في المستقبل.

لم يكن الأمر بحاجة إلى قرنين من الزمن، كما في النموذج الاوروبي الاصلي، كي تنضج التجارب المشرقية بخصوص الدولة الحديثة إذ ليس هناك أصلاً ما يبرر إعادة اكتشاف العجلة من جديد بعد أن اصبحت الدولة الوطنية الحديثة النموذج السائد عالمياً.

كانت المشكلة الأساسية في معظم هذه الدول الناشئة وغيرها في العالم العربي هي هيمنة الثورية على المؤسساتية في إطار صعود نخب عسكرية الى سدة الحكم وترسيخ الخوف من العالم الخارجي، الغربي عموماً، بوصفه عدواً يستهدف العرب عبر إشاعة نظريات المؤامرة المختلفة كسبيل لفهم العلاقة بين الذات والآخر.

ثم كان هناك الاستغلال الفج للعناء الفلسطيني وإعلاء تحرير فلسطين كقضية مركزية عُطلت باسمها الأسئلة الجوهرية بخصوص التنمية والديمقراطية والتطوير المؤسساتي والثقافي.

كان صعود الإسلام السياسي بعد فشل النموذج القومي إثر الهزيمة العربية المروعة في حرب 1976 آخر الأوهام الباهظة الثمن التي يمر بها العالم العربي عبر تأكيده الإشكالي على الهوية الدينية و إهماله أو تهميشه للهوية الوطنية والإنسانية للمرء.

في هذه السنوات الأخيرة نشهد السقوط، السريع نسبياً، لنموذج الإسلام السياسي في العالم العربي. ثمة مؤشرات مهمة على أن هذا السقوط  والدروس المُتَعلمة منه قد يفسح المجال لاستكمال بناء تجارب رصينة لدول وطنية حقيقية وراسخة.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى