كيف خطف “الإسلام السياسي” الجاليات المسلمة في فرنسا؟
لا يلبث ملف الإسلام في فرنسا أن يختفي من دائرة النقاش العام حتى يظهر من جديد. وللأسف، لا يعود الملف إلى دائرة الضوء إلا من خلال جريمة جديدة يرتكبها إسلاميون متطرفون، كما حدث سابقاً في حوادث “شارلي إيبدو” وهجمات خريف 2015، لتسقط هذه المرة ضحية أخرى من ضحايا الإسلاموية المتوحشة، وسط جدل لا يتوقف حول الإسلام كدين وحول المسلمين كأفراد وجماعات وعلاقتهم بـ”اللائكية” الفرنسية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في كل مرة يعود فيها هذا الجدل إلى الواجهة، هل النسخة السائدة من الإسلام في فرنسا، تعبّر عن الإسلام باعتباره ممارسة عقائدية كغيرها من العقائد المتجاورة في الفضاء نفسه، كالمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية، أم نسخة مسيسة تحمل شحنة إيديولوجية تغذيها جماعات متفرقة الولاء والتوجه بشحنات ليست لها علاقة بالدين نفسه؟
من خلال معايشتي اليومية للحالة الإسلامية الأوروبية، بالملاحظة والبحث، أستطيع القول إن ما يسميه الفرنسيون، خصوصاً الحكومة الفرنسية بـ”الإسلام الفرنسي” السائد، والمعبَر عنه في أشكال تنظيمية عديدة، كالجمعيات والمساجد والمدارس والاتحادات، ما هو إلا إسلام سياسي خالص، موزع بين جماعات إسلامية بعضها تابع لجماعة “الإخوان المسلمين” وبعضها موالٍ للتيارات السلفية وبعضها الأخر تابع لجماعة “الدعوة والتبليغ” وجزء منها موالٍ للتشيّع السياسي، وكل هؤلاء، ولاؤهم وأفكارهم وسياساتهم وأهدافهم ليست لها أية علاقة بفرنسا ولا بالمسلمين في فرنسا، تحاول توريد كل مشكلات وخلافات المسلمين في الدولة العربية والمسلمة لتعيد إنتاجها في شكل أو آخر في الساحة الفرنسية.
وأعتقد أن القانون الأخير الذي دفعت به إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مجلس النواب الفرنسي حول “الإنفصالية الإسلاموية” قد بدأ يراجع موقف الدولة الفرنسية من تحديد الهوية الحقيقية للإسلام السائد فرنسياً، إذ يشير بوضوح إلى التفريق الجوهري بين الإسلام كدين، والإسلام السياسي باعتباره برنامجاً سياسياً. وترى الوزيرة المنتدبة المكلفة بالمواطنة، مارلين شيابا، أن القانون من شأنه أن يقوي وسائل الدولة لمحاربة الانفصالية في شكل أفضل من دون المساس بقانون 1905 الذي يفصل بين الكنيسة والدولة ويقر العلمانية.
وكان الرئيس ماكرون، قد أعلن في شباط (فبراير) الماضي عن توجه إدارته نحو سن قانون جديد لمواجهة من سمّاهم بأعداء الجمهورية. وأشار إلى أن الهدف منه تحسين الرقابة على خطب المساجد التي قد لا تتوافق أحياناً مع قيم الجمهورية، والتوقف عن استقبال أئمة ترسلهم وتموّلهم دول أجنبية، معلناً في المقابل عن توجه لزيادة الأئمة الذين نشأوا في فرنسا.
لذلك بدأت السلطات منذ أشهر في شبه حملة أمنية وقانونية لتجفيف منابع هذا التيار، لتشدد هذه الحملة في أعقاب الحادثة الإرهابية التي أودت بحياة مدرس التاريخ صامويل باتي. وفي هذا السياق أصدرت السلطات الفرنسية الثلثاء أمراً بالإغلاق الموقت للمسجد الكبير في ضاحية بانتان في الضواحي الشمالية الشرقية لباريس، مشيرةً إلى أن صفحة المسجد نشرت تسجيلاً مصوراً قبل الهجوم يحض على كراهية الضحية باتي. وجاء في الإشعار الذي أصدره رئيس إدارة سين سان دوني المختصة، أن الإغلاق ومدته ستة أشهر “هدفه الوحيد منع أعمال الإرهاب”. لكن اللافت أن مسجد ضاحية بانتان ليس تابعاً لجماعة مصنفة إرهابية كما يعتقد البعض ولا لمنظمة سلفية متشددة بل هو من بين مئات المساجد التي تسيطر عليها جماعة “الإخوان المسلمين” في فرنسا، وهذا يؤكد أن للإرهاب والتطرف في المجال الفرنسي روافد عقائدية وليس مجرد نشاط إرهابي معزول.
وقبل ذلك كانت السلطات الفرنسية في تموز (يوليو) الماضي قد فتحت تحقيقاً في شبهة “خيانة مؤتمن” تتعلق بتمويل المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، في محافظة سان دوني، شمال باريس، وهو مؤسسة غير حكومية للتعليم العالي تقوم بتدريب الأئمة على وجه الخصوص. ويترأس المعهد أحمد جاب الله، الرئيس السابق لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، الفرع الفرنسي لجماعة “الإخوان”، والعضو السابق في “حركة النهضة” التونسية. كما أن هذه المؤسسة هي جزء من سلسلة معاهد مماثلة منتشرة في أوروبا. وتأسس أول معهد “إخواني” في عام 1992، في مدينة سان ليجر دو فوجريت، وسط فرنسا، وهو المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية شاتو شينون، بهدف تدريب الأئمة على الأرض الفرنسية، وفقاً لمناهج قريبة من تيار الإسلام السياسي. وفي إطار محاصرة الظاهرة، بخاصة أمام شعور الدولة بالقلق إزاء صعود هذه الشبكة من المدارس الطائفية، أخضعت السلطات معهد ابن رشد، في مدينة ليل، وهو مؤسسة تعليمية غير حكومية تابعة لشبكة “الإخوان المسلمين”، لتدقيق ضريبي منذ بداية العام الحالي.
وكشف تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي، في شهر تموز (يوليو) الماضي، عن أن “مؤيدي الإسلام السياسي يسعون إلى السيطرة على الإسلام في فرنسا” من أجل “إنشاء الخلافة”، ويغذون في بعض المدن “نزعة انفصالية” خطيرة، من دون تقديم تفاصيل عن هذه الأعمال. واقترح التقرير، الذي حررته عضو مجلس الشيوخ الفرنسي جاكلين أوستاش-برينيو، نحو 40 إجراء للحد من “التطرف”، من بينها منع التحريض والخطابات الانفصالية ومراقبة بعض المدارس والجمعيات، وتوعية المسؤولين المنتخبين ووسائل الإعلام، مبدية قلقها بإزاء الحركات الإسلامية المتشددة التي تدعي أنها غير عنيفة لا سيما السلفية منها و”الإخوان”.
نقلا عن النهار العربي