سياسة

التغريبة الأرمينية.. القتل نفيا بالأمر العثماني


صدر الأمر العثماني الرسمي إذن: قتل الأرمن تغريبا..

أجل.. لم يخطئ القارئ فهم العبارة، فالعثمانيين كانوا قد قرروا التخلص من الأرمن بتغريبهم عن بلادهم الأصلية التي عاشوا فيها لعشرات القرون، وتعريضهم -عمدا- خلال تلك التغريبة لشتى المخاطر القاتلة، سواء كانت المخاطر الطبيعية من جوع وإرهاق مميت، أو المخاطر “البشرية” من هجمات العصابات الموالية للسلطة العثمانية.

المقتلة:

البداية كانت في المعقلان الأرمينيان “فان” و”زيتون” في مارس من عام 1915م عندما تزايد قرار المجندين الأرمن من الجيش العثماني نتيجة سوء المعاملة لهم، وتحصنهم بالجبال ومقاومتهم القوات التركية التي حاولت إعادتهم قسرا.. فلما فشلت قرر العثمانيون تهجير أهل “زيتون” وإحلال محلهم مهاجرون مسلمون من البلقان وبلغاريا.. وسيق آلاف الأرمن عبر الطريق الطويل إلى منفاهم في دير الزور بسوريا..

وفي فان، رفض الأرمن الخضوع للتجنيد فداهم العثمانيون قراهم في أبريل 1915م وذبحوا سكان 80 قرية بعد أن نهبوا ممتلكاتهم وحاصروا فان نفسها..

حاول نحو 1500 أرمني بدون تسليح مناسب أن يدافعوا عن أهل فان البالغ عددهم 30000 فرد ..

اعتبر العثمانيون أن هذا الإجراء الدفاعي ضد عسفهم خيانة من الأرمن، فداهمت السلطات 200 أرمني من كُتاب ومثقفين ووجهاء وبرلمانيين أرمن بالعاصمة العثمانية الأستانة، وأعدموهم ميدانيا، ثم سجنوا 600 آخرين تمهيدا لقتلهم تباعا خلال الفترة التالية.

لم يكف ذلك القدر من الدماء غليل الوحش العثماني ليرتوي، فقام العثمانيون بشنق المسجونين السياسيين الأرمن في السجون العثمانية.

قوافل الموت:

داهمت القوات العثمانية القرى الأرمينية معلنة قرار السلطة المركزية بنفيهم، مع وعد لهم بأن يكون هذا إجراء مؤقتا لحين انتهاء الحرب، وبالفعل جاءت لجنة عثمانية بحجة جرد ممتلكات الأهالي الأرمن ووضعها تحت “الحفظ والصون” لحين رجوعهم المزعوم.. وبعد استسلام الأهالي خلع العثماني الغادر قناعه فأباح لنفسه تلك الممتلكات من عقار ومنقول وأحل محل الأرمن مهاجرين مسلمين من القوقاز…

ثم تم تقسيم المستسلمين فأُعدِم الرجال، وسيق النساء والشيوخ والأطفال في قوافل الموت المتجهة إلى الشام…

وفي الطريق لاقى هؤلاء من صور الهلاك أنواعا، فالنساء تم خطف بعضهن وبيعهن كسبايا، والبؤساء السائرون على أقدامهم دوهموا كل حين من عصابات الدرك التركي وبعض عصابات قطع الطريق الكردية.. ووراء كل هجمة كان الرَكب يخلف الجثث والمصابين الذين كانوا يُترَكون لمصيرهم، والمسلحون العثمانيون المرافقون للقوافل كانوا يتسلون من حين لآخر بقتل أسراهم بتغريقهم في مجاري المياه.

وهكذا بعد أن كان رَكب الموت يحمل 1200000 أرميني، لم يصل إلى ولاية حلب منهم على قيد الحياة سوى 50000، بينما قُتِلَ 700000 وخضع للتتريك 200000 ونجح 200000 في الوصول للقوقاز للنجاة بحياتهم.

كل هذا في ثلاثة شهور.. أي أن العثمانيون قد استطاعوا في وقت قياسي تحقيق رقم مرعب في سجلات المذابح الجماعية.

وحتى من بلغوا ولاية حلب، قد تعرضوا لخطر الفناء عندما أمرت السلطات العثمانية والي حلب بالتخلص منهم، إلا أنه قد نجح في إنقاذهم في يقظة ضمير هي غريبة على الضمير العثماني النائم منذ قرون، ولكن لم يسعد الحظ المنفيين إلى جبل موسى جنوبي حلب، فقد حاولوا مقاومة السلطات العثمانية لكنهم دوهموا وتعرضوا للتذبيح والنفي.

أما دير الزور فقد شهدت الفصل الأبشع، حيث نزح لها 30000 أرميني فأمرت السلطات متصرف دير الزور بالتخلص منهم، فتم توجيههم إلى الموصل إلا أنهم قد فنوا في الصحراء والناجون منهم نفذت بحقهم محارق جماعية حيث تم حبسهم في كهوف وغمرهم بالنفط ثم حرقهم أحياء.

والبقية الباقية ممن لم يبتلعهم الموت غرقا أو حرقا أو برصاص الدرك والعصابات، تُرِكوا للطبيعة القاسية التي أفنتهم جوعا وعطشا ومرضا…

وهكذا شعر الغول العثماني بالرضا عن نفسه بعد أن تخلص من مشكلة الأرمن بتخلصه من الأرمن نفسهم!

بقية جريمة التصفية العرقية:

ولأن من يضع نفسه في حالة جنون الارتياب -البارانويا- لا يُشفَى بسهولة، استكمل العثمانيون إجراءاتهم بحق الأرمن بأن قرروا نفي أرمن الأناضول، فنفوا نحو 95000 من أرمن أنقرة و11000 من قسطموني. وكذلك نفوا من أرمن قيصرية وبروصة وأدرنة… حيث لاقى بعضهم مصيره في قوافل الموت بينما نجا سعداء الحظ منهم…

ختاما:

في يناير 1917م أعلنت السلطات العثمانية رسميا انتهاء “المسألة الأرمينية”، حيث أنه لا أرمن بها لتكون لهم مسألة.. ليفتتح العثمانيون القرن العشرين باحتلالهم موقع “أصحاب أول جريمة تصفية عرقية في القرن العشرين”..

وليستحقوا لعنات كل أصحاب الضمائر عبر التاريخ الذي لا يرحم أمثال هؤلاء من السفاحين، الذين للأسف ما زالوا يجدون من تتوفر لديه الصفاقة الكافية لتبرير جرائمهم البشعة إلى يومنا هذا..

جدير بالذكر أنه بينما كان هذا مصير الأرمن على أيدي الأتراك العثمانيين، كان استقبال العرب لهم-خاصة في كلا من سوريا ومصر- متسما بحسن الضيافة وسرعة تقديم الغوث للملهوف والنجدة للمستنجد.. فقد فتح العرب بلادهم وبيوتهم لهؤلاء الذين ابتلاهم القدر بالوحشية والهمجية العثمانية، فأضافوهم بل واحتضنوهم حتى صار الأرمن من أهل هذه البلدان وناسها..

بل ولقد أصدر الشريف حسين خلال الثورة العربية ضد الاحتلال العثماني بيانا، يحض فيه العرب على نجدة الأرمن وإغاثتهم وحمايتهم.

وكأنما يأبى التاريخ إلا أن يقدم مقارنة بين الموروثان العربي المتحضر والعثماني الهمجي!

ملاحظة للقارئ: لمزيد من التفاصيل عن المسألة الأرمينية أنصح بقراءة الكتابان الثريان “الأرمن عبر التاريخ” لمروان المدوّر و”الأرمن في مصر” للدكتور محمد رفعت الإمام.

نقلا عن سكاي نيوز عربية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى