الأزمة الليبية أكبر من الانتخابات وأكبر من السلطة التي تنتجها الانتخابات.. الأزمة الحقيقية في ليبيا هي “المليشيات”.
المليشيات هي المرادف الحقيقي لغياب الدولة الوطنية وتفككها واحتلال الجغرافيا واستلاب التاريخ.
لم توجد المليشيا في بلد وعاش صحيحا معافى، وإنما عاش مرهونا لمن يملك السلاح، ولنا في نموذج “حزب الله اللبناني” مثالا لاختطاف القرار الوطني لصالح شخص واحد فقط لا يملك أي مؤهلات سوى السلاح.
ولنا فيما يحدث في العراق عظة ونموذج أيضا.
ويبدو حسب الوضع القائم أن إجراء الانتخابات الليبية في موعدها في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر أو حتى إجراؤها في أي وقت آخر، أن هذا ليس الحل، كما لم تكن الانتخابات في العراق حلا أيضا.
فقد تُجرى الانتخابات الليبية وتُعلن النتائج، لكن ترفضها المليشيات.. قد تجرى الانتخابات وتنتج سلطة شرعية في البلاد لكن لن تستطيع هذه السلطة ممارسة دورها السياسي بسبب المليشيات.
في ليبيا أجريت انتخابات نيابية في يونيو 2014 وفاز التيار الوطني وخسرت المجموعات الإسلاموية خسارة كبيرة ولم تحصل إلا على 30 مقعدا فقط.
في مواجهة هذا الفوز تمردت المليشيات وتحالفت تحت اسم “فجر ليبيا” قبيل انعقاد مجلس النواب الليبي المنتخب في مدينة طبرق، تحركت المليشيات بهدف السيطرة على مطار طرابلس.
في المقابل، رد الجيش الوطني الليبي بـ”عملية الكرامة”.
في محصلة 2014، أجريت الانتخابات وظهرت النتائج، لكن أمام السلاح تم إفراغها من مضمونها كأنها لم تكن.
أيضا لنا فيما حدث ويحدث في العراق عبرة، فأمام المليشيا لا شيء يكون ذا جدوى، لا انتخابات ولا مؤسسات ولا دولة.
الانتخابات العراقية الأخيرة التي أجريت في أكتوبر 2021 وظهرت نتائجها، ما زالت في أروقة المحاكم تائهة تحت حيل المليشيات.
فحين خسرت الأذرع المليشياوية الموالية لإيران قلبت المعادلة رأسا على عقب.
الأمر عند المليشيا يتجاوز فكرة التوافقات الأيديولوجية والإطار التنسيقي، لكن القضية تتعلق بمن يدير ويحرك الميلشيا، لأنه ببساطة هو من يموّل وهو من يحق له القرار.
وشهدت المنطقة الخضراء عددا من الاعتصامات التي هددت بنسف العملية برمتها، وتعرض رئيس الوزراء العراقي للاغتيال.. المنطق السياسي يقول إنه لا يمكن أن تحاور من يمسك بيده السلاح، فالمعادلة عرجاء.
الانتخابات الليبية ليست هي الحل في وجود المرتزقة والمليشيات، كما أن إهمالها ليس أيضا هو الحل، وإنما عملية الإصلاح الليبي تحتاج إلى عمل شمولي متكامل يتأسس على مراحل، أولها إزالة الورم السرطاني من جسد الدولة الوطنية وهو “المليشيات” وإخراج المرتزقة، ثم بعد ذلك تطهير الجرح ووضع خارطة طريق يكون أولها وضع دستور حقيقي، وانتخابات برلمانية ورئاسية، والأهم من ذلك كله فك ارتهان ليبيا بالقرار الخارجي، وأن يكون القرار الليبي قرارا وطنيا خالصا.
أما النخبة الليبية الحالية فتحتاج إلى كثير من التغييرات التي تدفع بوجوه جديدة تكون قادرة على خلق مشروع سياسي تصالحي يقبله المجتمع الليبي كله، وقادرة على تطهير ليبيا من التنظيمات الإخوانية.
المجتمع الدولي هنا ليس بريئا مما آلت إليه الأوضاع في ليبيا، إذ ظهر بعين واحدة يغمضها مع ما يتوافق مع مصالحه، ويفتحها حتى يعوق مصالح آخرين.. بات الجميع مقتنعا بأن المجتمع الدولي لو أراد لفعل لأن أزمات العالم تؤكد ذلك.
أزمة ليبيا ليست أعمق ولا أعقد من حرب البوسنة.
ليبيا لن تقسم إلى بلدين، وليس فيها اقتتال أيديولوجي وليس فيها تلك المجازر التي ارتكبت خلال حرب البوسنة والهرسك.. ليبيا فيها مليشيات وتدخلات خارجية تحتاج إلى إرادة ترغم أمراء الحرب على الرضوخ للقبول بخارطة طريق، وترغم الجميع على إخراج المرتزقة ووقف دعم المليشيات.
كما أن الأمم المتحدة، التي ينص ميثاقها على حفظ الأمن والسلم الدوليين، قادرة على نشر قواتها لتحجيم أي مليشيات أو مرتزقة، لكنها ببساطة لا تريد.
في ليبيا ثمة شعار جامع شامل، وهو “الكل مقصّر ووحده الشعب الليبي يدفع الثمن”.