سياسة

الاغتيال المعرفي للأمم.. القتلة الفكريون


الاغتيال المعرفي والفكري للأمم، يقصد به تبييض الأفكار والجماعات، التي لا يمكن أن تتواءم مع الحد الأدنى لمعايير التعايش معا في سلام.

  أصبح من المتعارف عليه، خصوصا بعد صدور كتاب “جون بيركنز” الاغتيال الاقتصادي للأمم، أن قراصنة أو قتلة الاقتصاد economic hitmen، هم مجموعة من المحترفين، تتلخص مهمتهم في إخضاع الدول التي تذخر بالبترول والموارد الطبيعية إلى دول كبرى واقتصادها المتمثل في الشركات الخاصة الكبرى. وذلك دون الحاجة إلى حشد الجيوش وشن الحروب على البلدان المستهدفة، كما كان يحدث في أزمنة الاستعمار المباشر؛ فكما تطور العصر، فقد تطورت أيضًا سبل فرض الإرادة ونهب الثروات، وأصبح ذلك يتم وكأن القتلة الاقتصاديين ومؤسساتهم وبلدانهم تقدم يد العون إلى البلدان “المسكينة” التي تحتاج إلى من ينقذها ولا تهدف من هذا إلى أي مطمع، أو مسعى أبعد من ذلك. يتم هذا القتل الاقتصادي بإغراء الحكومات بالاستثمار وتوريطها في ديون تثقل كاهلها وتسلبها استقلالها، وإلا فالإطاحة بالحكومات نفسها واستبدالها بأخرى، فإن لم يكن فتصفية الحاكم أو شن حرب عسكرية مباشرة.

ينصب عمل القاتل الاقتصادي باختصار على عدم الوصول إلى الخيارين الأخيرين الأكثر كلفة وتعقيدا. 

  بالتوازي مع سبق، نستطيع أن نقول إن هناك من الأكاديميين والكتاب في الغرب من نستطيع أن نطلق عليهم “القتلة الفكريون”، الذين يستهدفون الاغتيال المعرفي للأمم. لنحاول فيما تبقى من هذا المقال تعريف ما المقصود بهذا النوع من الاغتيال وهو ما نسميه epistemological hitmen أو intellectual hitmen، وإعطاء أمثلة ملموسة عليه. 

  نقصد بالاغتيال المعرفي والفكري للأمم تبييض الأفكار والجماعات، التي لا يمكن أن تتواءم مع الحد الأدنى لمعايير التعايش معاً في سلام، في ظل دولة وطنية مواطنية حدثية وحداثية، تسمح باكتساب وتراكم الخبرات، لدوام التطور والنماء، بهدف التمهيد لسيطرة القوى الغربية على الدول العربية وفرض إرادتها عليها والهيمنة على مقدراتها، بتعطيل تطورها الفكري والمعرفي، وعزلها عن حركة التاريخ، وتأبيدها في جدليات مفرغة، وسجنهم معرفيًّا في لحظة زمنية معينة من تطورها، لتأبيدها فيها، واعتبار تلك اللحظة الزمنية هوية لها تقارن باللحظة الآنية للثقافة الغربية كأنها قد ولدت فيها. هذا وعلاقة بعض منتجي المعرفة من الأكاديميين الغربيين مع المؤسسة الاستعمارية باتت معروفة ومؤرخا لها، وهناك منهم من قام حتى بتصعيد العنف والإتجار في السلاح بين القبائل محل دراسته ونشر الأمراض فيها. 

قاتل فكري ومعرفي من يطابق من الأكاديميين الغربيين بين الإسلام كدين وبين الجماعات الإسلاموية، ويعتبر الأخيرة هي الممثل الوحيد للإسلام، متجاهلا تيارات أخرى مهمة على الساحة الإسلامية، كتيار التصوف وتيار التجديد العقلي.. إلخ.

  قاتل فكري ومعرفي من يروج من الأكاديميين الغربيين أن الإسلاموية هي رد فعل هوياتي إسلامي مشروع ومتفهم تجاه محاولة استلاب الهوية من قبل الغرب، متجاهلاً أن أكثر أشكال الآخر تنظيرا لكراهيته وشن الحرب عليه في الأيديولوجية الإسلاموية هو المسلم “غير الإسلاموي: -وليس الغرب- لأن وجوده في حد ذاته يشكك في أن الإسلام هو الإسلاموية.

  قاتل فكري ومعرفي هو من يروج من الأكاديميين الغربيين أن فصل الدين عن الدولة هو خصوصية مسيحية، بينما المزج بينهما هو من خصوصية الإسلام، متجاهلاً أن فصل الدين عن الدولة ليس خصوصية مسيحية، كما أن المزج بينهما ليس خصوصية الإسلام كما يدعون، أن العلمنة -أو على الأقل شكل من أشكال العلمنة- كان جزءًا من تراث الإسلام الكلاسيكي، وبالتالي لا يمكن تقديم «العلمانية» كإنجاز تاريخي باعتباره المنتج الحصري للغرب.

قاتل فكري ومعرفي هو من يربط بين القداسة والسلطة حصرا على الإسلام، متناسيا أن الربط بين السياسي والديني موجود في الأديان جميعا، وأن الأصوليات في المسيحية والإسلام واليهودية لديها تقريبا نفس النظرة للعالم ونفس العداء لفصل الدين عن الدولة.

  قاتل فكري ومعرفي هو من يبرر ويبيض من الأكاديميين الغربيين العنف الذي تمارسه الإسلاموية، منكراً تماماً دور النص الأيديولوجي المؤسس والمسوغ للعنف، وحاصراً أسباب عنف هذه الحركات فقط في التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، باعتبارها وحدها العوامل المنشأة لهذا العنف.

  قاتل فكري ومعرفي هو من يتحول من باحثي الأكاديميا الغربية إلى مجرد أجهزة تسجيل، تعيد ترديد مقولات الإخوان المنمقة، دون تحليل النصوص التأسيسية، لفهم ممارساتهم ومخيلتهم، مختزلين بذلك واقع هؤلاء في عدد قليل من المقابلات -المخطط لها بعناية- مع بعض قيادات الإسلاموية التي تتعمد استخدام «خطاب مصطنع»، موجه للغرب تحديدا بهدف كسب تعاطفه وتأييده السياسي.

  قاتل فكري ومعرفي هو من يروج للإسلاموية على أنها البديل الديمقراطي لبعض الحكومات العربية، متجاهلاً أن الأيديولوجية الإسلاموية ترفض التنوع متجاهلاً وتجنح للاعتقاد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فميل المعتقدين لنبذ القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك لا جدال فيه، يتجاهل هؤلاء أيضا أن نموذج الإسلاموية أو فهمها الخاص المفعم بالسياسة للإسلام وضعه بشر، ولكن يلبسونه رداء القداسة ويتماهى فيه الديني بالسياسي بدرجات مختلفة تبدأ بتأصيل العلاقة بين الديني والسياسي، مروراً بتقديس تلك العلاقة نهاية بتسييس كلي للديني. لذلك يتعارض هذا النموذج كليا مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك. يتجاهل هؤلاء أيضاً أن إيمان هذه التيارات بالديمقراطية يتمحور بشكل أساسي في العملية الديمقراطية الإجرائية، وليس في العملية الديمقراطية الجوهرية الفلسفية. أي أن هذه التيارات تؤمن بالديمقراطية كوسيلة تستطيع من خلالها الوصول إلى السلطة، إلا أنها لا تؤمن بجوهر العملية الديمقراطية، والمتمثل في احترام التعددية والسعي للعمل المشترك مع كافة الأطراف السياسية والمجتمعية، لضمان التطبيق الفعلي لجوهر مفهوم الديمقراطية، الذي يعتمد على فلسفة حكم الشعب.

  قاتل فكري ومعرفي هو من كان يراهن على أن الإسلامويين سيتغيرون تحت ضغط الواقع نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقبل الآخر.. إلخ من معايير مبدئية للتعايش المشترك، لأنه وبحسب تلك النظرية فإنهم بتغير الظروف والضغط لصالحهم عندما يتمكنون من الحكم واستطاعوا أن يغيبوا أو أن يحيدوا قوى الضغط عليهم بالمصالح أو العنف، فإنهم بلا جدال سيتغيرون، ولكن في تلك الحالة سيعودون إلى نسختهم الأولية من فهمهم للدين للاستقواء بها واحتكار الدين والفضاء العام والخاص. نسختهم الأولية هذه التي تشكل نظرتهم الحقيقية للحياة وتضمن لهم التجييش ورفع الشرعية عن جميع الفاعلين في المشهد السياسي والديني ليبقوا هم فقط.

  قاتل فكري ومعرفي هو من نظر مع الإسلاموية لعزلنا عن حركة التاريخ، بادعاء فشل أو حتمية فشل الدولة الوطنية العربية عموما، وذلك بادعاء أنها شكل مؤسسي غريب عن الواقع المجتمعي والثقافي للعرب، تم فرضها قسراً من أعلى على المجتمع والمواطنين، أو بالتذاكي بمقارنتها بالدولة الوطنية الغربية المستقرة حارقاً للمراحل التاريخية وعازلاً لها عن سياقها المليء بالتحديات الخارجية والداخلية التي تعيش فيه.

  يكفي لكي نتأكد أن هؤلاء قتلة معرفيون وفكريون أن ننظر لنتائج ما فعله تنظيرهم وتروجيهم للإسلاموية في الدول التي مسها ضر ما يسمى بالربيع العربي، وأن نتصفح تاريخ قرابة قرنين ونحن نسأل: من نحن؟ وكيف نحكم؟ وكيف نعيش معا؟ لنعرف كم شارك هؤلاء القتلة المعرفيون والفكريون في أن ندور في حلقة ولا نتقدم إلا بالرجوع لنقطة البداية حتى يسودوا.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى