“الإيدز الاجتماعي”.. فقدان للمناعة الأخلاقية

د. نصر محمد عارف


“الإيدز الاجتماعي” هو تعبير عن حالة فِقدان المناعة الأخلاقية الطبيعية المتوارثة في المجتمع. تمامًا كمرض الإيدز الذي يصيب الإنسان حين يفقد المناعة المكتسبة.

 

فهو الظاهرة الاجتماعية، التي تعاني منها بعض المجتمعات العربية، التي أدمنت الصراخ والعويل في وسائل الإعلام، ومِن على منابر المساجد، مجتمعات يلهث بعضُها وراء أوهام.

المجتمعات العربية مهددة بأن تصبح مصابة بـ”الإيدز الاجتماعي”، يُخشى عليها من فِقدان مناعتها الأخلاقية والقيمية، لعدم مواجهة مشكلاتها الصغيرة في وقت ظهورها مواجهة صحية، وصحيحة، فتتفاقم، وتتضاعف مضاعفاتها، وتتحول إلى أمراض مزمنة، يصعب علاجها، أو يستحيل، وتحتاج إلى جراحات عميقة، أو عمليات بتْر.

أربعة أسباب يمكن أن تؤدي إلى تمكُّن “الإيدز الاجتماعي”:

أولها: غياب كثير من المؤسسات عن وظائفها منذ بداية سياسات العولمة الاقتصادية الشرسة، التي دهست في طريقها الملايين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، الذين أصبحوا يُطحنون بين شقّي الرّحَى، الفقر من جانب، وظاهرة الرياء الاجتماعي من جانب آخر، فقد خلقت العولمة ظاهرة التسليع، أي إضفاء قدسية اجتماعية على السلع الحديثة، فأصبحت السيارة والأثاث والأدوات الكهربائية أهم من كل القيم، ومن العلاقات الاجتماعية.

وثانيها: ضلال الخطاب الديني عن طريقه، ودخوله في مرحلة التيه، فالخطاب التقليدي أدخل الدين في “الديب فريزر”، للحفاظ عليه من التلف أو التحلل، وتُركت الساحة لمن ركبوا الموجة، وتصدّوا للدعوة والفتوى، وقيادة الجماهير التي لا تبحث، أو المتعلمة تعليما شكليا ناقصا، أو فارغا، تصدّوا بمجموعة من المظاهر، التي تعد من قبيل النفاق بلغة الفقه، أو النصب والاحتيال بلغة القانون.. إذ يكفي الداعية من هؤلاء إطلاق لحية، وعلامة صلاة، وكُنية، ونسبة إلى قرية، أو طائفة، ويصبح ذلك الداعية المحتال أكبر عالم دين.

ولأن الدين لا صاحب له، فلا سبيل لاكتشاف هؤلاء “النصابين”.. أما الحركات والجماعات، والتنظيمات الإسلاموية، التي أعلنت أنها “تحرس الفضيلة”، فقد انصرفت إلى الاتجار بالرذيلة من أجل مكاسب سياسية، تمارس الكذب والغش، وتنشر الفضائح ما دامت تنال من خصومها، أصبحت رسالة هذه الجماعات هي الصراع السياسي.. تتاجر فيه بالدين للوصول إلى المُلك.

وثالثها، فنون وثقافة مثل السينما والدراما يتحكم فيها رأس المال، وتحكمها معايير شباك التذاكر، والعوائد المالية، لذلك صار الكسب المادي هو المحرك للفنون التي تشكل الوعي، وتحدد معايير السلوك، وتغير العادات والتقاليد، ولم يعد الفن وسيلة للتربية والتنشئة الأخلاقية، بل صار وسيلة لنشر الجريمة والعنف والانحراف الأخلاقي، وتحولت هذه الفنون إلى وسيلة لإضعاف مناعة المجتمع الأخلاقية، ووسيلة لتمكين “الإيدز الأخلاقي” من المجتمع.

ورابعها، إعلام أصبح يقوم على الإعلان والربح، ومن ثم صار تسويق الجريمة والفضائح الوسيلةَ المُثلى من أجل زيادة نسبة المشاهدة أو التوزيع، ومن ثم زيادة الإعلانات، لتحقيق المليارات، فيما لا يهتم أحد بالقيم، تحت شعار “فليذهب المجتمع إلى الجحيم!”.

في حالة مثل هذه لا بُدّ أن تتحرك المؤسسات المسؤولة عن حفظ المجتمع لتقوم بدورها، سواء مؤسسات رسمية أو أهلية، حكومية أو مجتمع مدني، فلا بدّ أن تتضمن مناهج التعليم مقررًا إجباريًّا عن الأخلاق، وهذا المقرر موجود في دول كثيرة في أوروبا وشرق آسيا، وكذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولا بدّ أن تقوم المؤسسات المعنية بشؤون الدين بدورها، وتركز على وظيفتها الأساسية، وهي حفظ أخلاق المجتمع، والارتقاء بها، وتربية الأجيال على القيم النبيلة والسلوكيات الفاضلة، هذه هي الوظيفة الأساسية للدين.

ولا بدّ أن تعود الدولة للاهتمام بالفنون والثقافة وتستثمر فيهما، فلن تستطيع الدول العربية أن تحقق نهضة والإنسان العربي ليس على المستوى الأخلاقي، الذي يضمن استدامة هذه النهضة.. ولا بدّ أن تعود الدولة للإنتاج السينمائي والفني، ولا يُترك هذا المجال الحيوي لرأس المال الساعي للربح بأي ثمن، ولا بدّ من تقديم نموذج جديد للإعلام يستفيد مما هو موجود في العالم، إعلام يرتقي بعقل الشعب وثقافته وذوقه وقيمه.

 

Exit mobile version