سياسة

الإخوان وأوهام العودة وواقع يائس

طارق أبو السعد


ينتاب جماعة الإخوان الإرهابية هاجس المصالحة والعودة للشارع المصري ومن ثم للشارع العربي والإسلامي، كل فترة، وتحديدا كلما جدت معطيات في المشهد المصري أو العالمي.

لديهم قدرة ذاتية لتفسير وتأويل كل وأي حدث إما على أنه مؤامرة تُحاك ضدهم، وإما عقاب من الله للبشر لأنهم لم ينصروهم في معاركهم، أو أن قوى العالم ستنقذهم من مصيرهم.

وعلى الرغم من تناقض تخيلاتهم وعدم منطقيتها فإن هذه التأويلات يقدمونها لأبناء صفهم على سبيل التخدير، حتى لا يفيقوا من وهمهم على الواقع الأليم.

تلك الرغبة المحمومة تفاقمت مؤخرا بشكل ملحوظ، على وجه الخصوص، بعد عدم استدعائهم للحوار الوطني، الحوار الذي حشروا أنفسهم فيه حشرا، وبذلوا كل طاقتهم للتواصل مع القيادة المصرية والحصول على مقعد في جلسات الحوار، وفي ظل تجاهل المؤسسة الرسمية لكل نداءاتهم للتصالح أو للتفاوض أو لأي شكل من أشكال التفاهم، أصبح قادة الإخوان في مأزق أمام قواعدهم التي تنتظر إما النصر والعودة لقصر الرئاسة كما وعدوهم، وإما على الأقل عقد صفقة للإفراج عن عناصرهم المحبوسة والمسجونة وفق القضاء المصري.

راهن الإخوان كثيرا على قدرة داعميهم بإجبار الدولة المصرية على قبول تسوية ملفهم، لم ينتبهوا إلى أنهم لم يعودوا رقما في اللعبة السياسية، فقد تجاوزتهم الأحداث والمتغيرات المتسارعة في العالم، وهم لا يزالون “محلك سر”، يقفون عند وهم العودة كقوة سياسية تخطب ودها الأحزاب، لم يدركوا أنهم  خرجوا من المعادلة السياسية ومن حسابات المجتمعات العربية كلها.

إن الواقع العالمي والإقليمي لديه ملفات أشد تعقيدا من ملف الإخوان المنتهي والمحسوم قضائيا، هنا أُسقط في أيديهم وتوقف إدراكهم للتغيرات السياسية العالمية والمعطيات المحلية، فهم -من البداية- لم يمارسوا سياسة بمعناها المعروف أو بقواعدها المعتمدة، التي ترتكز على مفهوم المنافع والمصالح، وأن في عالم السياسة لا عداء دائم ولا صداقة مستمرة، فقط مصلحة البلاد والعباد والأمن القومي للوطن، ولأنهم لم يفهموا هذه القاعدة ولم يحركوا قواعدهم من منطلقها، فكان لا بد أن يقدموا مبررا لتجاهل القوى الإقليمية والعالمية يتفق مع الوهم الذي يعيشون فيه، ثم تفتق ذهنهم أن ثمة مصالحة قادمة عبر وسائط دولية قادرة على حمل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على القبول بالمصالحة معهم.

علَّل قادة الإخوان طول الأزمة وتفاقمها بـ”المؤامرة العالمية”، وهو ادعاء يكذبه الواقع، فلا العالم يشغله حال جماعة أصبحت خارج الزمن، ولا أحد يهتم بعودتهم أو اختفائهم، لكنه تدليس مما اعتادوه، بل هو وهْم يتمنون حدوثه، فأوهام الإخوان هي أحد حيلهم النفسية، لتسكين أوجاع وآلام قواعدهم، وهي في الوقت نفسه داؤهم العُضال الذي لا ينفك عنهم، ولا سبيل لعلاجهم منه.

الوهم الإخواني مرضٌ، والإخوان مَرضى، ومرضى الوهم في حاجة دائما إلى مزيد من الوهم، ولا يكفون عن طلبه ليتمكنوا من ممارسة حياتهم أو قل غيبوبتهم.

وتحت القول العربي “داوِني بالتي كانت هي الداءُ” قام قادة الإخوان بالترويج لوهم اقتراب حل أزمتهم، سواء مَن في السجون وأسرهم أم الهاربون وقضاياهم، على يد أنظمة وسيطة، وتم الترويج شفهيا بين عناصر الإخوان، وسرًّا لا يعلمه إلا أعضاؤهم، حتى فضحهم فصيل منهم.

فمنذ ساعات أصدر المكتب العام للإخوان المسلمين، إحدى الجبهات المتصارعة، بيانا يعلن فيه عدم موافقتهم على أي مباحثات مع الدولة المصرية عبر وسطاء، مشككين في صحة مزاعم جبهتَيْ الإخوان “جبهة محمود حسين” و”جبهة إبراهيم منير”، بأنهم تلقوا اتصالات لوضع تسوية مناسبة لهم وللمحبوسين والمسجونين من أعضاء الجماعة، وأعلن المكتب العام أنهم لن يشاركوا في هذا المشروع، في غمز واضح لعلاقة الجبهتين لمختبرات دول أجنبية.

يأتي هذا البيان في ظل صمت الأطراف الإخوانية الأخرى، ربما كانت تنتظر أي ملمح، ولو بسيط، يمكن أن يفسر أنه “انفراجة”، ليكون ورقة ضمن أوراق صراع الجبهتين، في انتهازية لم يسبقهم إليها أحد، لحسم صراع بأس، للخروج من وضع مُزرٍ، عن طريق بث الوهم، ما أدى في النهاية إلى تسول ذليل لأي مكسب.

هذا هو الحصاد الحقيقي والأخير لجماعة أصرت أن تعمل ضد وطنها، لجماعة حرصت على تدمير مستقبل شباب الأمة، جماعة ارتضت أن تكون أداة في أيدي قوى غربية، فقط من أجل الوصول إلى الحكم.

من المحتمل أن تكون تصوراتهم تلك نتيجة لأزمات نفسية مروا بها، على وجه الخصوص، بعد كم الهزائم المتتالية في أكثر من دولة، وتوالي الفضائح المالية وتبادل السباب بين قيادات الجماعة، ما أسقط الأقنعة التربوية والدينية، التي كانوا يتخفون وراءها، فأرادوا أن يقنعوا أتباعهم بأنهم قوة إقليمية يُعمل لها حساب، وليسوا مجرد محبوسين ومسجونين بحكم القضاء وكل طموحاتهم أن يشملهم العفو الرئاسي القادم بمناسبة عيد الأضحى.

لكن الحقيقة، أنه ليس مجرد عرَض من أعراض الأمراض النفسية الجماعية، بل هو عيب في تكوين الجماعة نفسها، وإذا كنا نعمل على تكوين وعي جمعي يحذر من تلك الجماعة وأفكارها، يجب علينا أن نبحث ونفتش داخل العقلية الإخوانية، وكذلك النفسية الإخوانية، لنضع تصورا متكاملا للتعامل مع هكذا جماعة.

نحن أمام جماعة لديها مرض جيني في أفكارها يجعلها تشعر بتضخم وانتفاش الذات، سواء القواعد أو القيادة، فهم يتخيلون أنهم مركز الكون، وأن العالم يتآمر عليهم ليحرم سكان كوكب الأرض من الخير الذي يحملونه، ومن الكفاءات النادرة التي لم يحظ بمثلها كيان سياسي أو ديني، تنبع الذات الإخوانية المتضخمة المنتفشة، كنتيجة حتمية للتربية المغلقة التي يقوم بها قادة الجماعة لأتباعهم.

ففي غرف التربية المغلقة يقوم مسؤول كل أسرة بتسريب مجموعة من الأفكار إليهم، أولها أنهم “الجماعة المسلمة الوحيدة التي تفهم الإسلام فهما سليما وصحيا” بل ومن من منبعه الصافي، وأن كل المسلمين الحاليين “لا يفهمون دينهم”، وأن “الله اختار لهذه الجماعة قدرها ومصيرها”، وأنهم وحدهم “لهم شرف حمل الرسالة الإسلامية للعالم بعد تقاعس رجال الدين وأصبح الكثير منهم لا يعرفون دينهم”، كانوا يخبرون أتباعهم أنهم “الوحيدون القادرون على حل كل أزمات العالم إذا تمكنوا من قيادته”. وأنهم “الفئة الوحيدة المشغولة بقضايا الأمة” وهم “الإسلاميون الإصلاحيون” وهم “التنويريون”، وهم “حُماة العقيدة”، وهم “ورثة رسول الله”، وهم الذين “يحملون راية القرآن”، وهم “المجددون”، وهم “المناضلون”، وهم “الوطنيون”.. وهم “الجماعة التي لم ولن ترتكب أي خطأ فهم ربانيون”، وأن ما يجدونه من “مِحَن” هي ليست كذلك، بل هي “مِنَح من الله لهم”، وأن الكل “يعاديهم”، الحكام والوعاظ والناس والمتدينون لأنهم يحسدونهم على ما عندهم من “فهم وتأييد من الله”.

إنهم يؤمنون بأن الله هَو من اختار أعضاء الجماعة مِن بين كل الناس، وهذا الاختيار لـ”حكمة رآها الله فيهم”، أما مَن غادرهم أو تركهم أو اعترض عليهم “فقد علم الله فيهم ضعفا وشوائب في نيتهم” وأن الله “أراد أن يكشفه ويُقصيه عن شرف الانتماء للصف الإخواني النقي”!

يستخدم قادة الإخوان هذه الأفكار المتعالية لثلاثة أسباب:

الأول، السيطرة على التنظيم، فليس من المعقول إذا آمن الشاب بأنه مع الفئة المؤمنة الفاهمة سيحاول الخروج للمجتمع الجاهلي المريض المحارب لله ولرسوله، وبذلك يصنعون قيدا داخليا وهميا في رقبة أعضائهم يمنعهم من التفكير، ومن ثم يمنعهم من المغادرة.

السبب الثاني، هذه الأفكار جاذبة للشباب خالي الذهن، فيجب أن ينتمي لهم، وبهذا هيأوا الأسباب لعملية التجنيد، الذي يجدد دماء التنظيم كل فترة.

السبب الثالث، تعمل تلك الأفكار المتعالية كمُخدّر عندما يتألم الصف الإخواني من واقع الهزائم المتكررة والفضائح المستمرة، إضافة للمشكلات الأخلاقية بين عناصر الجماعة أو بين قياداتهم، أو الانشقاقات التي جاءت بعد صراعات على الأموال والنفوذ داخل التنظيم، تلك الخلافات العميقة والحادة التي لم تعد خافية، أو انكشاف حقيقة دورهم المخرّب في المجتمعات، فضلاً عن الرفض الشعبي القاطع والممانع لعودتهم كقوة فاعلة مجتمعيا.

كل هذا واقع مؤلم لا يريد الإخوان أن يواجهوه، فيلزم هنا تقديم تلك الأفكار والتفسير الغلط كنوع من أنواع المخدّر الذي يغيّب الواقع عنهم ويجعلهم يعيشون أوهاما عن المصالحة والعودة والانتقام ودخول قصر الاتحادية على دبابات ترفع راية الإخوان، ولا يشغلهم في وهمهم على أي دبابات سيركبون.


تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى