بعد أكثر من ثلاثة عقود، يبدو أن جدلاً انطلق خلال الحرب الإيرانية – العراقية بدأ في العودة مجدداً إلى طهران: هل يجب على الجمهورية الإسلامية أن تتخذ الخطوات النهائية نحو بناء ترسانة نووية؟
كان الدافع وراء الجدل الأصلي الذي دار خلف الكواليس هو الكشف عن أن الديكتاتور العراقي صدام حسين، بمساعدة فرنسية، يحاول بناء قدرة نووية (مفاعل تموز)؛ محطة للطاقة النووية ومركز أبحاث جرى تدميره في هجوم مفاجئ من جانب سلاح الجو الإسرائيلي باستخدام طائرات تحمل ألوان العلم الإيراني.
وكان من بين أولئك الذين حثوا على ضرورة المسارعة نحو إحياء برنامج الشاه النووي، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، أحد الملالي من أصحاب الرتب الصغيرة، ومع ذلك كان كبير مستشاري آية الله الخميني، ومحسن رضائي المرقاد، وهو طالب تسرب من التعليم ليصبح لاحقاً قائداً للذراع الموازية للخميني الذي كان قد جرى إنشاؤه حديثاً حينذاك: «الحرس الثوري» الإسلامي.
ومع ذلك، كان الخميني يكره الاعتراف، حتى ولو ضمنياً، بأن الشاه ربما كان على صواب في تعامله مع أي قضية.
بالطبع لم يكن الشاه يرغب في صنع قنبلة نووية، لكنه كان مصمماً على تزويد إيران بالوسائل العلمية والصناعية والتكنولوجية التي تمكّنها من ذلك. في المقابل، لم يبدِ الخميني اهتماماً بالقضايا الجيوستراتيجية المعقدة، وأعتقد أن إحياء مشروع آخر من مشروعات الشاه الطموحة من شأنه تقويض شرعيته.
وبعد أكثر من عام من التردد، وافق الخميني أخيراً على أن جمهوريته الإسلامية الحديثة النشأة يجب أن تمتلك قدرة نووية. إلا أنه على عكس الشاه، لم يكن يرغب في بناء صناعة نووية ذات قاعدة واسعة، وإنما كان يريد طريقاً مختصرة للمرحلة النهائية قبل صنع القنبلة، الأمر الذي أنجزته باكستان بنجاح.
وبعد ما يقرب من 30 عاماً من التعرج، أصبحت إيران الآن في وضع يمكنها من بناء رؤوس حربية نووية. كما طوّرت قدرة بدائية على إطلاق القنبلة إلى مدى 2000 كيلومتر.
في خضمّ النقاش الدائر حالياً، فإن أولئك الذين يدافعون عن القفز نحو مرحلة «العتبة» أو المرحلة الأخيرة من صنع القنبلة النووية، يجادلون بأن إدارة بايدن في واشنطن تتيح فرصة أمام الجمهورية الإسلامية لاغتنام الفرصة التي قدمها الرئيس باراك أوباما في البداية، لكن رفضها «المتشددون» داخل طهران.
ويزعم المدافعون عن سياسة بناء صناعة نووية كاملة، أن امتلاك الأسلحة النووية فقط هو الذي يضمن سلامة النظام كما يُفترض أنه فعل في كوريا الشمالية.
إلا أن هذه الحجة تنطوي على بعض المشكلات.
بادئ ذي بدء، كل الدول التسع التي طوّرت ترسانة نووية فعلت ذلك ضد أعداء محددين بوضوح وفي ظل ظروف محددة.
على سبيل المثال، صنعت الولايات المتحدة القنبلة واستخدمتها لتقصير أمد الحرب ضد اليابان وتجنب «خسائر بالملايين». أظهرت المذبحة في أوكيناوا التكلفة الفادحة للاستيلاء على الأرخبيل الياباني جزيرة تلو الأخرى. ومع ذلك، فإننا نعلم اليوم أنه حتى من دون المآسي التي وقعت في هيروشيما وناغازاكي لم يكن بوسع اليابان أن تطيل أمد الحرب.
من ناحيته، صنع الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين قنبلته النووية الخاصة، رداً على ظهور الولايات المتحدة بوصفها المالك الوحيد لترسانة نووية في سياق «الحرب الباردة».
وبعد ذلك، صنعت الصين قنبلة نووية في خضم منافستها مع الاتحاد السوفياتي، عندما ندد ماو تسي تونغ بالزعيم الجديد للكرملين بوصفه خائناً للاشتراكية.
وربما كان الأهم من ذلك أن ماو قد شعر بصدمة بالغة بسبب الدونيّة العسكرية للصين عندما غزا السوفيات وضمّوا أجزاء كبيرة من الأراضي الصينية على امتداد الحدود الطويلة للبلدين.
وكانت الدولة التالية التي انضمت للنادي النووي، الهند، التي فعلت ذلك في أعقاب حرب حدودية مع الصين استولى خلالها جيش مو على أجزاء كبيرة من كشمير ولداخ. ولم تستطع الهند أن تجلس وتنتظر ما قد تفعله دولة مجاورة عدوانية مسلحة نووياً.
وبمجرد حصول الهند على القنبلة النووية، بدأت باكستان تشعر بعدم أمان متزايد. وبعد خسارة شرق باكستان (بنغلاديش)، اعتقد ذو الفقار علي بوتو والجنرالات الباكستانيون أن بإمكانهم كبح جماح طموحات الهند الوحدوية في أي حرب تقليدية، لكن التعامل مع الهند المسلحة نووياً كان مسألة أخرى مختلفة تماماً…
وأخيراً، طورت إسرائيل ترسانة نووية تنكر امتلاكها، وذلك على ما يبدو من أجل موازنة حرمانها الديموغرافي والإقليمي مقارنةً بدول عربية تضمر العداء لها.
ما إذا كانت أيٌّ من الحسابات المذكورة أعلاه صحيحة أم لا، فهي مسألة مفتوحة أمام النقاش.
من ناحيتها، زادت الولايات المتحدة ترسانتها النووية مائة ضعف، لكنها لم تستطع استخدامها في كوريا أو فيتنام لضمان إحراز انتصارات واضحة.
وبالمثل، فإن حيازة القنبلة لم تنقذ الاتحاد السوفياتي من الانهيار.
وصنع ماو القنبلة، ولكن كان على الماوية أن تموت من أجل أن تولد الصين الجديدة.
ولم تكن الهند المسلحة نووياً قادرة على استعادة الأراضي التي فقدتها أمام الصين أو انتزاع شبر آخر من الأرض من باكستان.
أما إسرائيل، فانتصرت في كل حروبها مع جيرانها العرب من دون أسلحة نووية. في الواقع، تعد نجاحات إسرائيل في التطبيع مع الكثير من الدول العربية ودول أخرى غيرها، ثماراً لجهود دبلوماسية مدعومة بقدرات عسكرية تقليدية.
في كل ذلك، تبقى كوريا الشمالية الاستثناء مثلما الحال معها في جميع مجالات الحياة الأخرى تقريباً.
وعليه، فإن أولئك الذين يدافعون عن صنع القنبلة في إيران يجب أن يخبرونا: أي أمة هي العدو المفترض الذي تستهدفه القنبلة؟ الحقيقة أنه من غير المحتمل أن تتعرض إيران لهجوم من جانب أيٍّ من الدول المجاورة لها البالغ عددها 15 أو 16، بما في ذلك الدولتان اللتان تملكان أسلحة نووية: روسيا وباكستان.
من ناحيتهم، نجد أن بعض الملالي يصنفون إسرائيل على أنها «عدو» لتبرير صنع القنبلة.
من جهته، قال رفسنجاني ذات مرة إنه في إطار حرب نووية مع «الكيان الصهيوني»، يمكن للجمهورية الإسلامية المسلحة نووياً أن تمحو إسرائيل من خلال خسارة 10 ملايين فقط من شعبها، (وقد نسي الفلسطينيين المحبوبين الذين يُفترض أنهم يعيشون إلى جانب الإسرائيليين والذين سيموتون أيضاً إذا ألقى الملالي قنبلتهم).
والمثير للاهتمام، أن أياً من المشكلات التي قد تواجهها الدول القومية بعضها مع بعض، مثل النزاعات الحدودية، والتنافس على مصادر المواد الخام والأسواق، ونزاعات تقاسم المياه، والرغبة في استعادة أراضٍ سبق فقدانها لصالح الدولة الأخرى، وسوء معاملة فصيل ينتمي للعرق ذاته والذكريات التاريخية المريرة، لا وجود لها بين إيران وإسرائيل. ولا يستطيع أي زعيم إيراني، حتى في ظل النظام الحالي، أن يطرح لنا تفسيراً منطقياً لاعتبار إسرائيل عدواً لإيران.
وبسبب عجزهم عن تصنيف إسرائيل بوصفها العدو، يرى بعض الملالي أن الولايات المتحدة هي العدو الذي تحتاج إيران إلى رادع نووي في مواجهته.
وهنا، نعود أدراجنا إلى النموذج الكوري الشمالي، لكن إيران ليست كوريا الشمالية، ذلك أن الأخيرة لا تعدو كونها مستنقعاً في الفناء الخلفي يحتاج إلى جذب الانتباه والحصول على بعض المساعدات، من خلال تحدي «الشيطان الأكبر» المزعوم.
على أي حال، إيران أكثر أمناً من دون قنبلة نووية، ذلك أنه في حرب تقليدية، يمكن أن ينقذ إيران حجمها الإقليمي وقدراتها العسكرية الحالية.
وليس باستطاعة الدول المسلحة نووياً مهاجمة الدول غير النووية. لذلك، لا يمكن للولايات المتحدة أو أي جهة أخرى إلقاء قنبلة نووية على رؤوسنا. أما إذا امتلكت إيران قنبلة نووية، فإنه يمكن لآخرين استخدام القنبلة حينها ضدنا.
ويكمن الخطر في أن الملالي قد يعدّون القنبلة النووية رمزاً للمكانة، مستغلين ضعف بايدن كفرصة لإذلال «الشيطان الأكبر».
يمكن أن يؤدي ذلك أو يضلل إيران نحو التورط في متاهة تاريخية أشد خطورة.