لم تُعانِ قارةٌ من قارات العالم ويلات الحروب مثلما عانت القارة الأوروبية.
فنصف تاريخ هذه القارة القديم والحديث ضاع في الحروب الدينية، والعرقية، والعنصرية، والعبثية، وقدمت شعوبها عشرات الملايين من الضحايا، لذلك أصبح السلام هو الغاية العليا والهدف الأسمى لشعوبها وحكوماتها، فمنذ الحرب العالمية الثانية حتى أواخر فبراير 2022 كانت أوروبا -ومعها امتداداتها الحضارية في أمريكا الشمالية وأستراليا- أهم دعاة السلام، بل كانت حُرّاس السلام العالمي، حتى وإن شنّت حروبا على شعوب العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، كانت تلك الحروب يتم تغليفها بطبقات براقة جذابة باهرة من شعارات “السلام العالمي، والأمن الإنساني، وحماية الأرواح، وتأمين الضعفاء”، فقد كانت شعارات السلام وقيم الأمن تطغى على الخطاب السياسي الأوروبي والأمريكي، حتى في أثناء انخراطهم في حروب شديدة القسوة في دول العالم الثالث.
لقد كانت النُّخبُ السياسية الغربية هادئة ورزينة وعاقلة تدير العالم بحكمة وهدوء، تفرّق بين الشعار والحقيقة، بين الخطاب السياسي والعمل العسكري، بين ظاهر الأمور، الذي ينبغي أن يكون متسقا مع القيم الغربية، وبين باطنها الذي يجب أن يحقق المصالح الغربية.
كل ذلك كان يحدث حينما كانت النخب السياسية الغربية تملك زمام المبادرة، وتقود حركة العالم، وتخطط ثم تنفذ، أي إنها كانت تتصرف في حالة استرخاء لتحقيق ما تعتبره من صميم مصالح شعوبها وأهداف دولها.
فلم يعرف التاريخ الحديث حدثا دوليا مهما إلا وهذه النخب كانت على علم به، أو خططت له، أو توقعته بكل أبعاده، لذلك كانت في موقع القيادة والتحكم، وتدير خطابها السياسي بكل هدوء، بما يضفي الشرعية والقانونية على أفعالها في الواقع الميداني.. ولكن مع بداية الأزمة أوكرانيا ووضوح الأهداف الروسية فيها، وتصاعد الخطاب السياسي الروسي بدرجة توشك أن تُدخِل العالم الغربي في حرب عالمية ثالثة.. هنا فقدت النُّخبُ السياسية في الغرب توازنها، وارتبكت وتشتَّت انتباهها، وضعف تركيزها، وشعرت بالإهانة السياسية والوطنية والحضارية، وبدأت تظهر في الأفق أمام تلك النخب بوادر عالم جديد تفقد فيه أوروبا وأمريكا هيمنتهما على العالم.
هنا تغيّرت الحال، من شعارات السلام إلى تجارة الحروب، كما يحلو للناطقين بالإنجليزية أن يقولوا War Mongers، أي باعة متجولون ينادون على الحروب.
منذ أن بدأت أزمة أوكرانيا طغت على الخطاب السياسي الأوروبي والأمريكي لغة الحرب، واختفت تماما شعارات السلام، التي كانوا يستخدمونها حين لم تكن مصالحهم مهددة، أو كرامتهم الوطنية والقومية مُهانة.. تحول وزراء الخارجية إلى “وزراء حرب”، وتحولت اللغة الدبلوماسية إلى “لغة سلاح” و”تحريض على القتال”، واختفت أي تلميحات إلى الحلول الدبلوماسية، التي كانت تستخدم لتخدير الدول الضعيفة في العالم الثالث.
مَن يتابع الخطاب السياسي الغربي في الشهرين الماضيين يخلص إلى نتيجة واحدة، وهي أن “الحرب” و”السلاح” و”التدمير” و”القضاء على العدو” هي المفردات السائدة، وأن نهاية الحرب هي الحرب، ومستقبل الحرب هو الحرب، وكأن الحلول السياسية اختفت من الوجود، وكأن الحروب مستدامة بلا نهاية، وليست هي وسيلة لتحقيق المصالح ولا بد أن تنتهي بالسلام والاتفاق مثلما كان يحدث مع جميع الحروب في السابق.
إن لغة الحرب، التي سيطرت على الخطاب السياسي وعلى الإعلام في الغرب، سوف تمثل تهديدا خطيرا للأمن العالمي، وسوف تدفع بالنزعات القومية المتطرفة والتوجهات “النازية” إلى الظهور والتمدد، وسوف تؤدي إلى إهدار جهود البشرية طوال السبعين عاما الماضية، والتي هدفت إلى نشر ثقافة السلام والتعاون والأمن والحلول الدبلوماسية.
إن أخطر ما سوف تتركه أزمة أوكرانيا هو انهيار المثل والقيم الدولية والإنسانية الكبرى، التي ظل الغرب يسوّق لها لزمن طويل، فقد ظهر جليا أن هذه القيم والمثل تظل موجودة ومحترمة ما دامت تحقق مصالح الأقوياء، فإذا تم تهديد مصالحهم، أو المساس بكرامتهم الوطنية والقومية والحضارية.. هنا تذهب هذه القيم والمثل إلى الجحيم.