في عصر الشعبوية السياسية يصعب على المتابع للشأن السياسي الدولي التفريق بين أفعال تعبر عن السياسة الخارجية للدول، وبين تلك التي من صميم السياسة الداخلية والصراعات الحزبية والحملات الانتخابية.
لقد عوَّدتنا الديمقراطيات الغربية أنه في أوقات الانتخابات يتخذ بعض السياسيين مواقف دولية ليست مقصودة في ذاتها، وإنما المقصود منها كسب أصوات الناخبين، والتغطية على إخفاقات داخلية تحول دون إعادة انتخاب الحزب الحاكم أو المسؤول ذاته.
وبالنظر إلى زيارة رئيس مجلس النواب الأمريكي، “نانسي بيلوسي”، إلى تايوان، التي تعتبرها جمهورية الصين الشعبية جزءا لا يتجزأ منها وترفض أن تتم معاملتها كدولة مستقلة.. وفي الوقت نفسه هناك موقف من الحكومات الصينية المتعاقبة بعدم ضم تايوان إلى الصين بالقوة، وإنما بالتوافق وبالطرق السلمية، وإلى أن يتم ذلك تُعارض الصين الاعتراف الدولي بتايوان كدولة مستقلة… بالنظر إلى تلك الزيارة في هذا التوقيت بالتحديد، وبالنظر كذلك إلى رد الفعل الصيني، من حيث الالتزام بالتعقل والحكمة، وعدم الانجرار إلى أي نوع من المواجهة مع الولايات المتحدة، إذا تأملنا كل ذلك، سنجد أن السر في شهر نوفمبر القادم.
بالنسبة للولايات المتحدة سيشهد شهر نوفمبر 2022 انتخابات التجديد لكامل أعضاء مجلس النواب، 435 عضوًا، و34 من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ، وأكثر من ثلث حكام الولايات.. وستكون نتيجة هذه الانتخابات حاسمة في تحديد أي الحزبين سيفور بانتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2024.
وحيث إن الحزب الديمقراطي نجح في الفوز بأغلبية الكونجرس بمجلسَيْه، الشيوخ والنواب، ونجح كذلك في الفوز بأغلبية حكام الولايات، وبالبيت الأبيض فوق كل ذلك.. ونظرًا لظروف جائحة كورونا ثم الأزمة الأوكرانية، ولأسباب تتعلق بالحالة الصحية للرئيس، وبتكوين الإدارة الأمريكية في عهده، لم يستطع الحزب أن يحقق الوعود الانتخابية التي قطعها للناخبين، بل على العكس فقد ساءت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتزايدت معدلات العنف المجتمعي، وتصاعدت معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة في نصف القرن الأخير… كل ذلك سوف يضع فرص الحزب الديمقراطي على المحك في انتخابات نوفمبر 2022، ومثلها ستكون انتخابات 2024.
في ظل هذه المعطيات تأتي زيارة رئيسة مجلس النواب إلى تايوان لخلق نجاحات خارجية تُقنع الناخبين بالتصويت للحزب الديمقراطي في الانتخابات القادمة، خصوصًا أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نجح في جعل الصين عدوًا في الوعي الجمعي الأمريكي، لذلك فإن أي محاولة لإخضاع الصين والنَّيل منها سوف تُعتبر نصرًا قوميًّا أمريكيا، وهذا ما سعت لتحقيقه “بيلوسي”.
وعلى الجانب الآخر تصاعد الخطاب الصيني قبل الزيارة بصورة جعلت العالم يخشى من وقوع مواجهة بين الولايات المتحدة والصين، وساد شعور مؤقت بأن “بيلوسي” لن تذهب إلى تايوان، ولكن كانت المفاجأة أنها حطت في “تايبيه”، عاصمة تايوان، بهدوء وسلام، واقتصر رد الفعل الصيني على الاحتجاج الدبلوماسي، وبعض الاستعراضات العسكرية في الأجواء والبحار المحيطة بتايوان.
هنا يثور السؤال: لماذا تراجع الموقف الصيني بعد تصعيد؟.. الإجابة في “نوفمبر 2022”.. إذ سوف ينعقد المؤتمر الوطني العشرون للحزب الشيوعي الصيني، وهذا المؤتمر هو الأكثر أهمية على الإطلاق في الثلاثين عامًا الأخيرة، لأنه بناء عليه سوف يتحدد مصير الرئيس الصيني الحالي وإدارته، وسوف يتقرر مستقبل الخطط السياسية والاقتصادية للصين.
ومن المعروف للمتابعين للشأن الصيني أن النخبة الحاكمة في الصين، التي تحيط بالرئيس “شي جين بينغ”، تنقسم إلى فريقين: أحدها يتمسك بترسيخ عظمة الصين، واستعادة دورها، ومواجهة الغرب -ممثلا في الولايات المتحدة- وهذا التيار الداعم لمبادرات الرئيس الصيني العالمية، والساعي لعودة الصين إلى مركز الاقتصاد العالمي، وتمددها في أفريقيا وآسيا، واستعادة دورها التاريخي، أما التيار الآخر فيرى مستقبل الصين “ضمن النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة”، ولا يرى ضرورة للمواجهة أو التنافس معها.
كلا الفريقين يؤمن بالصين الواحدة، التي من ضمن أقاليمها ومكوناتها تايوان.
لذلك كان التصعيد ثم التراجع لكي تتم الزيارة بهدوء، فيضعف دور الجناح الثاني في الانتخابات القادمة للحزب الشيوعي الصيني، ومن ثم تتأكد قيادة الرئيس “تشي جين بينغ”، ويتخلص من نغمة “التعاون والتناغم” مع الولايات المتحدة.
خلاصة القول إن زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان حققت الأهداف الصينية بصورة مؤكدة، ورسخت التوجهات الوطنية الصينية في قيادة الحزب الشيوعي، وأضعفت إلى حد بعيد التيارات التي تدعو للتناغم مع الولايات المتحدة، وعدم التنافس معها، وعلى جانب آخر لا يوجد دليل على أن هذه الزيارة ستحقق أهداف الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية القادمة في نوفمبر 2022، لأن الناخب الأمريكي مشغول برزقه أكثر من بطولات رئيسة مجلس النواب.