سياسة

أزمة أوكرانيا.. تحولات مفصلية في المسارين السياسي والعسكري

د. طارق فهمي

ستظل الأزمة الروسية الأكروانية تعبِّر عن نفسها عبر ارتدادات مباشرة على كل الأطراف المعنية.

يأتي هذا مع التيقن بأننا ما زلنا في المرحلة الأولى من تبعات ما يجري سياسيا واستراتيجيا، ما يؤكد أننا أمام تحولات حقيقية ستجري في هيكلية النظام الدولي، ولن تقتصر على أوكرانيا، أو الترتيبات المتوقَّعة داخل الناتو، والمساعي التي ستتحرك فيها الإدارة الأمريكية وهي تواجه انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، كما أنها مرتبطة بما هو جارٍ أوروبيا من انتخابات رئاسية ستبدأ بفرنسا، وبالتالي فإن جملة التحولات خطيرة وسيكون لها ارتداداتُها الضخمة في إطار الشد والجذب بين الأطراف المعنية.

أولا: بالنسبة للأطراف المباشرة، فقد بدأت روسيا في تقليص استخدام الدولارات في احتياطياتها وتسوياتها الخارجية، بعد العقوبات التي فرضها الغرب، كما حظر البنك المركزي الروسي بيع البنوك عملات أجنبية للأفراد، كما قرر أن يكون حدُّ السحب من الودائع القائمة بعملات أجنبية عند عشرة آلاف دولار، وذلك لمدة ستة أشهر، بينما سيكون من الممكن شراء العملات الأجنبية بالروبل في أي وقت وبأي مبلغ، كما فرضت موسكو بعض العقوبات على بعض المسؤولين الأمريكيين.

وقد تزامنت هذه الإجراءات الروسية مع إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن قرار حظر واردات النفط الروسي إلى الولايات المتحدة، في خطوة من شأنها أن تزيد الضغوط الاقتصادية على موسكو، وإن كان ذلك بلا أثر واضح، لأن صادرات روسيا تشكل أقل من 10% من الواردات الأمريكية، أيضا ليس لهذا القرار أثر كبير على الأسعار، التي لم ترتفع ارتفاعات كبيرة.

والواقع أن فرنسا تعتمد بنسبة 20% من إمداداتها على الغاز الروسي، فيما يبلغ المتوسط الأوروبي 40%، وبالتالي قد يكون تسريع تخزين الغاز لتعبئة وتخزين 90% من الحاجات اللازمة، مع محاولة تنويع الإمدادات من منتجين آخرين، والعمل على تحسين أداء محطات الغاز الطبيعي المُسال، من الحلول البديلة لأوروبا.

وتجدر الإشارة إلى أن أزمة الطاقة الحالية، مع ارتفاع كبير في أسعارها، شبيهة في تداعياتها بأزمة النفط خلال حرب أكتوبر عام 1973.

ثانيا: في تطور سياسي محسوب -قد يؤدي لتفاعلات وتغيير في المواقف خلال الفترة المقبلة- أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، أن لديه حلاً ممكناً لمسألة الاعتراف بشبه جزيرة القرم وجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك في ظل تأكيد أن البنود المتعلقة بالجمهوريات غير المعترف بها، إلا من قِبَل روسيا، يمكن مناقشتها وإيجاد حل وسط بشأن كيفية عيش هذه الأراضي.. هذا الأمر طبعا أصعب من مجرد إعلان الاعتراف بهذه المناطق، وهو ما سينعكس شكلا ومضمونا على آليات عمل الممرات الإنسانية، التي فُتحت أمام مرور المدنيين من المدن الأوكرانية.

ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية ستحتاج إلى وقت لتعتاد التطورات الراهنة والمحتملة، مع إعادة النظر في المصالح العليا الوطنية لروسيا، التي لها مجال نفوذها ومسؤولياتها الخاصة، وفي مقابل ذلك تسعى أوكرانيا في أن يواصل الكونجرس تزويد كييف بالمساعدات العسكرية والإنسانية، التي تحتاج إليها، خصوصاً أن الولايات المتحدة لا تريد إرسال قوات إلى داخل النزاع، وأن حلف الناتو لن ينشئ منطقة حظر طيران، ومع ذلك، ربما لا تزال هناك بعض الضغوط، بما في ذلك الضغط من جانب الديمقراطيين للنظر بجدية في اتخاذ تدابير أكثر فاعلية في أوكرانيا تتجاوز ما هو معلن من إجراءات وتدابير عسكرية أو سياسية.

ثالثا: هناك تطور مفصلي مهم يتمثل في رفض الولايات المتحدة عرض وارسو تسليم قاعدة جوية أمريكية في ألمانيا مقاتلات ميج-29 بولندية بهدف إرسالها إلى أوكرانيا، كمقترح غير قابل للتطبيق، باعتبار أن احتمال وضع مقاتلات تحت تصرّف الولايات المتحدة وانطلاقها من قاعدة أمريكية لقوات حلف شمال الأطلسي وتحليقها في السماوات المحددة سيكون أمرا صعبا، وفي مقابل ذلك،  فإن روسيا سوف تسعى إلى تحسين قدراتها العسكرية عبر تطوير أسلحة جديدة تشكل تهديداً متصاعداً على الولايات المتحدة ودول حلف الناتو.

رابعا: الواضح من مسارات ما يجري أن روسيا لا تريد مواجهة مباشرة مع القوات الأمريكية، بل إنها تسعى إلى تسوية مع الولايات المتحدة تشمل “عدم تدخل الطرفين في شؤون أوكرانيا، واعترافاً أمريكياً بنفوذ روسيا على غالبية بلدان الاتحاد السوفييتي السابق”، خاصة أن هناك تحفظات روسية حقيقية، أخطرها أن يكون الدفاع الجوي متاحاً إذا كان هناك انحراف غير مقصود في المجال الجوي لحلف الناتو.

فالأنظمة الأكثر احتمالاً، التي يمكن أن تُقدم لحلفاء الناتو، هي أنظمة “باتريوت” و”ثاد”، إضافة لإقدام الكونجرس على تجميع حزمة تمويل قوية لإرسال مساعدات عسكرية وإنسانية، حيث يعتمد الرئيس الأمريكي بايدن على قانون الاعتمادات الموحدة لعام 2022، الذي يمول الحكومة الفيدرالية حتى سبتمبر 2022، ويوفر 13.6 مليار دولار من المساعدات الإنسانية والاقتصادية والدفاعية لأوكرانيا.

وقد وافق مجلس الشيوخ على تخصيص مساعدات إلى أوكرانيا تقترب من 14 مليار دولار.

خامسا: تبقى فرص الوساطة عبر شريك ثالث قائمة، حيث دخلت الصين على خط جهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، إذ قال وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إن بلاده مستعدة لمواصلة لعب دور بناء في تعزيز المصالحة وتحفيز المفاوضات، ومستعدة للتعاون مع المجتمع الدولي في جهود الوساطة بحسب الحاجة.
إن حل النزاع في أوكرانيا يتطلب أعصاباً هادئة، بدلاً من التصعيد الذي قد يكون غير محسوب وغير مقدر في توقيت معين، فيما تبقى الوساطات المقترحة في إطار محدود لتسجيل موقف بالحضور في بعض المشهد السياسي ليس أكثر.

أخيرا، فإن أوكرانيا -رغم ما يجري من تبدل للمواقف والتوجهات سياسيا واستراتيجا- ليست مستعدة للإنذارات، التي توجهها روسيا بشأن قضية التخلي عن إمكانية الانضمام إلى الناتو، والاعتراف بشبه جزيرة القرم ولوهانسك ودونيتسك، لكن في الوقت ذاته فإن لدى أوكرانيا حلاً ممكناً لهذه المسائل، والحوار مع روسيا بشأن كيفية إدارة الأوضاع في مناطق لوهانسك ودونيتسك والقرم.

يمكن القول إذًا إن الولايات المتحدة وروسيا تحققان مكاسب من الأزمة الأوكرانية، وخلفهما تسعى دول العالم، كلُّ طرف بقدر لتحقيق مكاسب خاصة به من تفاعلات الأزمة الحالية، بينما تقف كل من أوكرانيا وحلف “الناتو” في موقع الخسارة، التي قد تصل، في سيناريوهات محتملة، إلى تفكيك الدول واختفائها على طريقة الخيارات الصفرية، بدليل رفض دول حلف الناتو الاستجابة إلى مطالب أوكرانيا بإقامة منطقة عازلة في سماء أوكرانيا يُنفَّذ فيها حظرٌ جوي على الطائرات الروسية حماية للمدنيين.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى