سياسة

أزمة أوكرانيا.. استمرارية المواجهات وفرص التوافقات

د. طارق فهمي


سيظل الصراع بين أطراف الأزمة الروسية-الأوكرانية قائما، وسط استعداد كل طرف لما بعد العمليات العسكرية.

 

لكن غموض التفاوض، رغم عقد سلسلة جولات بين الجانبين، سيظل لبعض الوقت تحت اسم “جولات استكشافية”، وذلك لحين الدخول في التفاصيل، خاصة أن المفاوضات لن تقتصر على روسيا وأوكرانيا، بل ستمتد إلى الجانب الأمريكي ودول حلف الناتو بصورة غير مباشرة، وهو الأمر الذي يعني ضرورة مضي كل طرف فيما لديه من أوراق ضاغطة، سواء عسكريا أو عقوبات، في سياق تحسين شروط التفاوض على الأرض، وتحقيق مكاسب سياسية إلى جانب المكاسب العسكرية.

لن تخرج روسيا من أوكرانيا إلا بعد أن تحقق كل أهدافها المعلنة، التي لن تتوقف عند منع تمدد حلف الناتو شرقا، وعدم الحضور في منطقة الأمن القومي الروسي، وفقا للتعريف العسكري والاستراتيجي للدولة الروسية، ما يؤكد أن الترتيبات الأمنية المطروحة لن تتوقف عند مساحات محددة، بل ستكون وفق التعريف الأمني لروسيا، وهذا نجاح للجانب الروسي في أهدافه، مع وضع اعتبار للنقاط الآتية:

أولا: أن إطالة أمد الحرب لن يخدم روسيا لاعتبارات متعلقة بالتكلفة المدفوعة في مسرح العمليات، كما أن دخول المرتزقة من دول عدة سيؤدي لتجاذبات عسكرية ضخمة قد تدفع لخسائر روسية حقيقية، علما بأن هذه الورقة -المرتزقة- ستكون على المحك بين روسيا وأوكرانيا، ما قد يؤدي إلى عواقب تمس أمن كل الأطراف، التي يمكن أن تعبر عن نفسها في الفترة المقبلة، حال توقف العمليات أو استمرارها، مع العلم بأن روسيا لا تريد مواجهات مع دول حلف الناتو، خاصة أن اتساع مسرح العمليات سيؤدي إلى مواجهات متعددة الأطراف لا تسعى إليها روسيا، وإنما هي تسعى لمحاصرة كل الخيارات العسكرية والاتجاه إلى العمل التفاوضي وفق حسابات مدروسة.

وكما يجري العمل السياسي، فإن مسار العمل العسكري سينفتح نحو خيارات أكثر واقعية، حيث نزع سلاح أوكرانيا، وغلق الباب أمام أي ترتيبات مضادة محتملة في المدى الطويل.

ثانيا: تجاوب روسيا مع مقررات ما طرح في القمة الاستثنائية لدول الناتو مهم وواقعي، خاصة أن التصعيد لن يخدم أي طرف، في ظل توقع استمرار المواجهات مع استمرار التفاوض، فالإدارة الأمريكية أغلقت الباب أمام إمكانية إرسال قوات إلى مسرح العمليات وقيامها بدعم أوكرانيا بصورة مباشرة، وهو ما يمكن أن يؤثر في مسارات الحل السياسي والعسكري معا، تلك المرتبطة بالإشكالية الكبرى، وهي احتمال دخول بولندا ساحة المواجهة، أو وقوع صدامات عن طريق الخطأ، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة تزعج دول الناتو، التي ترى في التحرك الروسي الراهن مزيدا من التصعيد، وليس السعي للوصول إلى تهدئة، وهو ما يثير مسألة الدفاع عن الأمن الأوروبي ومسؤولية دوله الرئيسة، وليس دول شرق أوروبا فقط، وهذا ما تدرك أبعاده الولايات المتحدة، في ظل تواتر المواقف وتصاعدها ووجود حالة من التباين في الرؤى بين مفهوم “الأمن الأوروبي”، و”أمن الآخرين”.

ثالثا: وجود قناعة أوكرانية نُقلت إلى الأطراف الأوروبية، خاصة في دول شرق أوروبا والدول التي لم تدخل حلف الناتو، بأن توفير الأمن والحماية يجب أن يكون مسؤولية أوروبا والولايات المتحدة معا، وليس طرفا واحدا، وهو ما يعطي دلالات عدم الاستقرار في الموقف الأمريكي الأوروبي إزاء ما يجري من تحولات هيكلية في بنية النظام الدولي، وأن المرحلة الراهنة من عمر هذا النظام تشهد تغيرات ستؤثر على اتجاهات ما ستؤدي إليه الأزمة الأوكرانية، ومن ثم فإن دول أوروبا تتأهب للخيارات الأخرى عبر منظومة أمن جديدة بالفعل، وليس العمل وفق نظام أمني قديم، حيث تعمل دول حلف الناتو على مواجهة التغيرات الجارية، التي يمكن أن تغير موازين القوى والمعادلات السياسية والاستراتيجية الحالية، وهذا ما تتوقعه الولايات المتحدة، حيث تتابع عن قرب “التفاوض الاستكشافي” بين روسيا وأوكرانيا، إذ لا تريد أمريكا أن تقدم كييف أي تنازلات حقيقية قد تمس الأمن الأوروبي وتفرض قيودا على الحركة الأمريكية في منطقة البحر الأسود وما يجاورها، خاصة مع مخاوف الإدارة الأمريكية من توافق روسي-صيني لافت قد يؤثر في مداه الطويل على الترتيبات الاستراتيجية، وقد يكون له انعكاساته السياسية على وضع النظام الدولي، والمكانة التي تشغلها الولايات المتحدة فيه حاليا.

تبقى إشارات مهمة متعلقة بموقف بعض أطراف الأزمة، ومنها بيلاروسيا، واحتمالات فرض عقوبات صارمة عليها مماثلة لتلك التي فرضها الغرب على روسيا، إضافة إلى احتمال قيام البابا فرنسيس بزيارة أوكرانيا للقيام بوساطة بين كييف وموسكو لإنهاء النزاع بينهما، وكذلك تحرك الصين في اتجاه لعب دور تدخُّلي ومباشر في الوساطة بين الأطراف المختلفة، وليس بين طرفي المعادلة فقط، كما سيظل الملف المرتبط بشأن احتمال شن هجوم بأسلحة كيميائية في أوكرانيا واردا، بعد أن أثارت روسيا مسألة تسرب الأمونيا في مدينة سومي، شمال شرقي أوكرانيا، وألقت باللوم على جماعات قومية أوكرانية، حيث ترى روسيا أن السلطات القومية الأوكرانية -بتشجيع من الدول الغربية- لن تتوقف عند أي شيء لترهيب شعبها وتشن هجمات لاتهام روسيا بها.

وهذه هي المرة الثالثة، التي تثير فيها روسيا قضية الأسلحة البيولوجية أو الكيميائية، وفي المقابل -ووفقا للمنظور الغربي- فإن هذا الاستخدام المحتمل قد يكون مقدمة لاختلاق الروس أنفسهم هجوماً ما بأسلحة كيميائية.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن الولايات المتحدة لديها معلومات استخباراتية جيدة، ليس فقط حول تصرفات روسيا، ولكن حول نياتها وعملياتها الفعلية. وهو ما تبدو نتائجه على الأرض عبر أداء الدفاعات الجوية الأوكرانية وعمليات الانتشار، ويشار أيضا إلى أن روسيا قد وجّهت إشارة تحذير إلى حلف الناتو من تدخله في مسار العمليات العسكرية، بعد تصريحات أمريكية بأن بعض بلدان الحلف قد تتخذ قراراً بشأن نشر قوات في أوكرانيا، فيما نبّهت روسيا إلى “تداعيات سلبية محتملة لتطور من هذا النوع”، معلنة أنها تستعد لمواجهة حظر نفطي محتمل عبر تنويع صادراتها، ورجحت أن تقفز أسعار النفط إلى معدلات قياسية قد تتجاوز 300 دولار للبرميل، كما تم تحذير روسي من تداعيات فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على صادرات النفط الروسي، باعتبار أن هذا القرار سوف يمس ويوجع الجميع، ويؤثر على ميزان الطاقة الأوروبي.

كان الاتحاد الأوروبي قد أعلن أنه يدرس فرض حزمة خامسة من العقوبات ضد روسيا، يمكن أن تتضمن فرض حظر على إمدادات النفط من روسيا، مع تأكيد أن تداعيات فرض حظر من بروكسل على النفط الروسي ستكون على الدول الأوروبية أكبر منها على الولايات المتحدة، كون الأخيرة منتجة للنفط، وأن قرار حظر على النفط الروسي سيطول الجميع، في ظل مسعى روسي لتوظيف كل الأوراق المتاحة، بما في ذلك استخدام الروبل في التعاملات المالية.

 

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى