سياسة

أردوغان وكوابيس الخرائط العثمانية


وجود جود خرائط حدودية لكل دولة من دول العالم يمثل قيمة قانونية مستقلة عن أي مصالح قد تنشأ بعدها.

معظم الخرائط الدولية وضعت بعد انهيار النظام العالمي القديم، الذي كانت تجسده الإمبراطوريات الدينية الكبرى. ولقد هُزمت تلك الإمبراطوريات ليس لأنها كانت تتصارع فيما بينها فحسب، بل لأنها أصبحت في موضعٍ غابرٍ من التاريخ لا يتلاءم مع الطبيعة “القومية” للدول الحديثة.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى نشأ نظام دولي جديد، ونشأت عصبة الأمم المتحدة، وكان من الضروري في ذلك الوقت أن تعرف كل دولة حدودها، وأن تستقيم العلاقات فيما بين الدول المتجاورة على أساس احترام تلك الخطوط.

وبطبيعة الحال، فإن رسم الحدود كان موضع نقاش وتفكر منذ أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت الدول، بما فيها الإمبراطوريات، تنظر في حدودها وتحاول أن تجد لها إطارا حقوقيا يستند إلى تبرير ما، طبيعي أو سكاني أو سياسي.

فريدريك راتزل ميّز في كتابه “الجغرافيا السياسية” في العام 1895 بين “نطاق الحدود” وبين “خط الحدود”، قائلا بأن “نطاق الحدود هو الحقيقة الواقعة، أما خط الحدود فليس سوى تجريد لهذا النطاق”. ويقول راتزل إن “نطاق الحدود هو المكان الذي يشير إلى نمو أو تقلص الدول، ففي الدول القوية يظهر ارتباط وثيق بين نطاق الحدود وقلب الدولة، في حين أن أي ميل إلى ضعف هذا الارتباط يؤدي إلى ضعف الدولة وإلى خسارة جزء من أراضيها، وعلى الدول أن تسعى إلى الحصول على أقصر خطوط للحدود لأنها أقواها وأحسنها، وأن تقيم استحكامات عسكرية على طول مناطق الحدود، ويدعم هذا التدبير باتخاذ الجبال والأنهار مناطق للحدود”.

والحدود الجيدة بالنسبة لراتزل يتعين أن ترتكز إلى ما هو أبعد من التضاريس الطبيعية (الجبال، الأنهار، الوديان، البحار) وإنما نوع السكان والموارد المتاحة والبناء السياسي داخل الدولة.

ودعما لهذه الفكرة، قالت ألين سمبل (1911): “إن الطبيعة تكره خطوط الحدود والانتقالات الفجائية، بل إن كل القوى الطبيعية تتكاتف مثل هذه الخطوط … وإذا حدث فاصل طبيعي لسبب من الأسباب فإن القوى الطبيعية تبدأ على الفور في إزالة هذا الخط بخلق أشكال انتقالية وبذلك تنشئ منطقة الحدود”.

ووضع الكولونيل ت. ﻫ. هولديك (1916) تمييزا بين خط “الحدود الطبيعة” وبين “تخوم الطبيعة”، قائلا “إن الطبيعة لا تعرف خط حدود، وحقًّا إن للطبيعة تخومها – نطاقات انتقال- لكنها تكره الخطوط، وخاصة الخطوط المستقيمة”.

ويلقي اللورد كرزون (1907) باللوم على “التخوم” التي تعتبرها الأمم حدودًا طبيعية بدافع من الرغبة في التوسع أو تحت إلحاح عواطف قومية، بالمسؤولة عن الكثير من الحروب والمآسي في التاريخ.

قصارى القول من هذه الاقتباسات (عن كتاب “الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا” لمحمد رياض)، هو أن رسم الحدود السياسية للدول كان موضع تفكر وتدقيق ومحاولات تأصيل وتقنين سابق على نشأة الدول الحديثة.

وعندما انهارت الإمبراطورية العثمانية، وانحسرت حدودها السياسية إلى تركيا الحديثة، وقعت تركيا من خلال أربعة من مبعوثي السلطان محمد الخامس على معاهدة سيفر 1920 التي نزعت السلطة العثمانية عن أجزاء الإمبراطورية العثمانية، خارج الحدود القومية التركية، بالاستناد إلى أسس قومية مماثلة.

هذه المعاهدة، منحت تراقيا أو الجزء الأوروبي من تركيا والجزر الواقعة في بحر إيجة لليونان. واعترفت بكل من سوريا والعراق كمناطق خاضعة للانتداب. وسمحت بحصول كردستان على الاستقلال بعد ضم ولاية الموصل إليها. كما اعترفت باستقلال شبه الجزيرة العربية، وباستقلال أرمينيا. واعتبرت مضائق البسفور والدردنيل مناطق مجردة من السلاح وتحت إدارة عصبة الأمم.

حركة الاستقلال القومي التي قادها كمال أتاتورك، اعتبرت المعاهدة ظلما تاريخيا، ورفضت الاعتراف بها. وحرصا من الدول المنتصرة على الاستقرار ومنع العودة إلى الحرب، فقد أعيد النظر بمعاهدة سيفر، ووضعت معاهدة جديدة في لوزان عام 1923، لم تعد رسم حدود تركيا الحالية، وإنما حدود اليونان وقبرص وبلغاريا وإيطاليا وسوريا والعراق. وكان المظلوم الأكبر فيها هو القومية الكردية التي تم تقسيمها بين أربعة أقاليم (تركيا والعراق وإيران وسوريا). وصادقت عليها حكومة أتاتورك، وتأسست على ضوئها دولة تركيا الحديثة، وأقرت حدودها بوصفها حدودا نهائية للأمة التركية. وفي محاولة لمعالجة الظلم الذي لحق بالأكراد، فقد اعتبرهم دستور تركيا جزءا من “الأمة التركية”، وهو ما تأسست عليه مظالم إضافية أخرى.

محاولات التبرير والتقنين في رسم الحدود، لم تكن لتخلو من جدل. إلا أن الصفة النهاية لها تجسدت في ما تم إقراره ووضعه كحدود معترف بها دوليا لدى الأمم المتحدة.

الاعتراف الدولي بالحدود صار هو الأساس، وليس المطامع أو الرغبات القومية لأي دولة. فما تم وضعه على أسس طبيعية، أو سكانية أو سياسية قديما، أخلى مكانه في النهاية إلى الاعتراف الدولي بما تم التوافق عليه بين الأمم المتجاورة، بالاستناد إلى ما تم وضعه من خرائط لدى الأمم المتحدة.

وهذا لا يبقي أي مبرر لتركيا بأن تطالب بتغيير الخرائط. من ناحية، لأن ذلك سوف يفتح الباب أمام حزمة كاملة من الخرائط التي يتعين تغييرها أيضا، ومنها مطالبة سوريا باستعادة لواء إسكندرون. ومن ناحية أخرى، لأنه سوف يضع خرائط العالم كله موضع شك لجهة قيمتها القانونية التي يجسدها الاعتراف الدولي بها.

باختصار، لا يشكل اكتشاف حقوق نفط أو غاز في أي مكان في العالم مبررا لتغيير الخرائط. هذه الاكتشافات لم تكن من الأسس التي استندت إليها محاولات التقنين لرسم الحدود بين الدول. ولا هي كانت من الأسس التي نظر فيها الاعتراف الدولي بالخرائط.

بمعنى آخر، ليس اكتشاف كنز في الجهة الأخرى من جبال الهمالايا، يمكنه أن يبرر للصين أو للهند أن تبرر لنفسها السعي لتغيير الخرائط. إذ سيكون ذلك عملا عدوانيا مدفوعا بالأطماع، لا بالحقوق التي أرستها الخرائط بعد أن أصبحت تكتسب صفة القانون.

وعلى وجه الإجمال، فإن التوافق بين البلدان المتجاورة، وما تم إقراره في معاهدات لرسم الحدود ظل هو الأساس الذي لا يمكن تجاوزه. ولقد وضعت تركيا الحديثة توقيعها على معاهدة لوزان وأقرت بما انتهت إليه خرائطها.

أما قانون البحار الدولي الذي أبرم في العام 1982، وأصبح نافذا في العام 1994، فقد استند إلى ما يمكن وصفه بحقوق الأرض في مجالها البحري الخاص. بمعنى، أن السيادة على أرضٍ ما، تمتد على نحو تلقائي إلى سيادة مماثلة في البحر إلى حد معين، يبلغ 12 ميلا بحريا ( أو ما يعادل 22كم) من خطوط الساحل. فضلا عن 200 ميل بحري يدعى (المناطق الاقتصادية الخالصة). وبات كل ما بعدها “مياها دولية” مشاعة من الناحية الاقتصادية.

وحيث أن الدول تتجاور وتتقارب في جزرها وسواحلها في معظم الأحيان، فإن التقاسم ظل هو القاعدة في رسم الحدود وخارطة المناطق الاقتصادية فيما بينها.

وهذا يعني بدوره أن تركيا لا تستطيع أن تطمع بأكثر من منتصف المسافة بينها وبين اليونان وأي جزيرة من جزرها. وكذلك الحال مع قبرص. وهو ما يعني أيضا أنها لا تملك حدودا بحرية مع مصر ولا مع ليبيا.

لماذا يريد عنصريو القومية التركية ورجب طيب أردوغان أن يغيروا الخرائط؟

من دون أسس قانونية، فإن الأمر لا يعدو كونه نزعة عدوان وأطماع توسعية، لا تستند إلا إلى مبرر واحد، هو استعادة أوهام وكوابيس إمبراطورية غابرة، جزء كبير من عالم اليوم، قام على هزيمتها.

وهي إمبراطورية هزمها التاريخ قبل أن تهزمها الحروب. ويحتاج المرء أن ينام على سلسلة لا تنتهي من الكوابيس لكي يعيد التاريخ إلى الوراء، دع عنك الخرائط.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى