سياسة

أردوغان في مواجهة جمهوره


لم يكن مستبعداً وصول الرئيس التركي أردوغان إلى هذه المرحلة من محطات حياته الحزبية والسياسية.

 بعد أن انتهج أساليب وسياسات داخلية وخارجية سعى من خلالها بمجملها إلى تثبيت وتكريس وجوده ببعديه الأيديولوجي الإخواني على رأس حزب حاكم من جانب، والشخصاني الفرداني متكّأً على قاعدة حزبية ممثلة بحزب العدالة والتنمية من جانب آخر، وعلى الصعيد الخارجي عمل على تطويع وتوظيف علاقات تركيا التاريخية والمستجدة لخدمة نوازعه الذاتية ومشاريعه المعتملة في رأسه كموروث يغذيه بأوهام طوى الزمن صفحاتها .

نتائج آخر استطلاعات الرأي كشفها مركز “كونادا” التركي للأبحاث الأسبوع الماضي وأظهر تدني معدل شعبية أردوغان إلى أقل من ثلث الشعب التركي، وسجل ” تحالف الجمهور” الذي تزعمه أردوغان في فترة سابقة، تدنيا كبيرا في شعبيته بين صفوفه وصل إلى حدود خمسين بالمئة، مقابل تفوق “تحالف المعارضة” بدرجة ملموسة .

جملة معطيات أصبحت ماثلة للعيان وللشعب التركي في البعدين الداخلي والخارجي أسهمت في هذا التأثير على خيارات شرائح واسعة من المجتمع التركي وتبدلها جراء سياسات أردوغان، فعلى المستوى الداخلي تأتي الدعوات لإجراء انتخابات مبكرة لتعكس مزاجاً شعبياً متذمراً من الطبقة السياسية الحاكمة التي يقودها أردوغان والتي لم تتورع في التماهي مع نهج سيدها دون إجراء أي عملية نقد أو مراجعة للنهج الأردوغاني، وما أفرزه من نتائج وتبعات ضارة على المستويين السياسي والحزبي داخل البلاد، ولربما يفيد النظر في هذا السياق إلى الواقع البائس الذي يلف أقطاب حزب العدالة والتنمية الحاكم وبناه الحزبية الحالية بعد أن حوّلته النزعة الأردوغانية الفردية إلى مجرد هياكل نمطية لا فعل لها ولا دور، وسلبت من أعضائه القدرةَ على التغريد خارج سرب مجموعات زعيمه، وقد يكون من المهم أيضاً استحضارُ التصدعات التي ضربت حزب العدالة والتنمية إبان خروج عدد من زعاماته التاريخيين مثل علي باباجان وأحمد داوود أوغلو وكان قد سبقهم إلى ذلك الرئيس التركي السابق عبدالله غول، حيث شكل خروجُهم وإعلانهم الانتقالَ إلى مسارات حزبية وسياسية ومجتمعية مناهضة لأردوغان، بصفتيه الشخصية والاعتبارية الرسمية، أولى بل وأهم الملامح على رفضهم تحوّل القاعدة الحزبية للرئيس التركي من مَنْهل يفترض أنه يغذي توجهاته وسياساته ويدعمها ويشكل حاضنة لرفده بشخصيات متمرسة في مختلف المجالات والقطاعات في عملية تفاعلية بين القاعدة الحزبية والزعيم، إلى صورة نمطية حزبية لأفراد لا يملك الواحد منهم من أمره سوى التهليل لسيده، ولذلك كان خروجهم مدوياً، أماط اللثام عن حقيقة ما يعانيه حزب العدالة والتنمية من تكبيل وترهيب لأطره الحزبية جراء سطوة وهيمنة أردوغان ومجموعته داخله .

مرت سنوات على حالة الجمود والشلل اللتين تضربان أوصال حزب العدالة والتنمية، ومن الطبيعي أن يتجه أي مكوّن حزبي نحو الترهل ثم التفكك حينما يفقد القدرة على إجراء عملية النقد الذاتي التي تسهم بشكل دائم في تجديده وتجديد حيويته في البعدين الحزبي والاجتماعي وهما مرتكزان رئيسيان وحاملان للطبقة السياسية التي تتبلور ضمن عملية جدلية داخل صفوف أي حزب، وتمنع بزوغ نزعة فردية بين صفوفه أو على الأقل تَحُدّ من ظهورها وطغيانها وبذلك تجنّبه الانزلاق نحو الانحدار، ومع مرور الأيام بدا الحزب الحاكم في تركيا فاقدا القابلية لإنتاج مشروع تطويري ذاتي يمكّنه من البقاء على ساحة الصراع الحزبي والسياسي الداخلي بعد أن أعملت الفردانية الأردوغانية سيفها بين جنبات القاعدة الحزبية، وحولت مبدأ النقد الذاتي إلى حالة انتهازية لا تخرج عن مقاربة المصالح الفردية مع متطلبات الانصياع للطبقة التي تدير كل هذه السياسات، وتتقاطع مع تلك الوقائع والمعطيات الماثلة على المستوى الحزبي سياساتٌ اقتصادية لا يمكن فصل تفاعلاتها الخارجية عن الداخلية وبالعكس، فالنزعة التوسعية عسكرياً أرهقت الخزينة التركية، والسياسات التي اتسمت بالعدوانية والغطرسة أفرزت مزاجاً دولياً مناهضاً لتركيا – أردوغان تحوّل عند البعض من شركائه، قبل خصومه وأعدائه، إلى مواقف ضاغطة تمثلت بفرض عقوبات اقتصادية على عدد من قطاعات الإنتاج والصناعة، وانعكس صدى ذلك جلياً بالأرقام حين هوت الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها تاريخيا، ولامس العجز الاقتصادي خمسين بالمئة خلال العام المنصرم .

حزمة من الأعباء الثقيلة تراكمت على عاتق الشعب التركي خلال السنوات القليلة المنصرمة بفعل سياسات أردوغان، منها الاقتصادي ومنها الحزبي، ومنها المتعلق بقمع الحريات الفردية الشخصية والحزبية، وكلها لن تكون خارج حسابات الناخب التركي الذي يرنو إلى أن يشكل الاستحقاق الانتخابي الرئاسي عام 2023 منعطفا في مسيرة جمهوريته نحو مستقبل مغاير ينقله عبر مسارات اقتصادية وسياسية وحزبية جديدة إلى آفاق من الاستقرار والحرية، وقد تكون الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة من قبل تيارات وأحزاب وشخصيات مناهضة لنهج أردوغان وغطرسة حزبه، مدخلاً مهماً لتصويب مسار الوضع الداخلي قبل الخارجي .

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى