هل ينهي الناتو أوهام أردوغان؟


وضعت السياسةُ التركية التي يقودها أردوغان حلفَ شمال الأطلسي في دائرة القلق، ورفعت منسوبَ التوتر بين تركيا، العضو فيه، وبين بقية أعضائه الأوروبيين . قد يبدو للبعض أن التوترَ القائم حالياً جديد، أو محرضاته حديثة العهد . في حقيقة الأمر ما هو حاصلٌ اليوم بين أعضاء الحلف الأوربيين من جهة، وتركيا من جهة ثانية، ليس وليد اللحظة التنافسية في المتوسط، بل هو تجلّ لمشكلات افتعلتها أنقرة على مدار عقود منذ احتلالها لشمال قبرص، وانتهاجها أسلوب الابتزاز والاستفزاز للشركاء الأوروبيين في سعيها للحصول على عضوية النادي الأوروبي دون جدوى، ترافق ذلك مع لجوء الجانب التركي إلى محاولات تعطيل عمل أي تكتل أوروبي و التشويش عليه وإرباكه مع التصرف بذهنية الانتقام ضد المؤسسات الأوروبية بشكل عام كلما سمحت الظروف بذلك.

الحلف الأطلسي يبدو الآن على أعتاب مرحلة جديدة من مسيرته وهو يواجه تحديات وجودية حقيقية داخل بنيته، وكذلك بسبب ملامح المواجهة التي فرضها أردوغان عليه. بواعث القلق الأوروبي لاتقتصر على ما يقوم به الجانب التركي في شرق المتوسط، ولا على التحديات المتنامية للأمن والاستقرار في الجانب المقابل للقارة الأوروبية، ولا حتى على انخراط أنقرة في عملية تحدّ سافرة لشركائها في الناتو عندما أرسلت سفنها للتنقيب في منطقة متنازع عليها مع اليونان شريكته في الناتو رغم مناشدات التهدئة التي أطلقها الجانب الأوروبي، بل يتأتى القلق الأطلسي من استمرار تهديدات نظام أردوغان ضد اليونان، والمراوغة مع عواصم الغرب بين الحين والآخر، ما يطرح أسئلة كثيرة منها: هل يمكن القول إن أردوغان يملك من الأوراق ما يجعله قادراً على التأثير على وحدة الناتو مستقبلاً؟ إلى أي مدى يستطيع إحداثَ شرخ بين أعضائه؟ ما الفائدة التي يرجوها في حال زعزع استقرار ووحدة الكتلة الأطلسية؟ بالمقابل ما هي الأوراق التي يحوزها الأعضاء الأوروبيون المتكاتفون في الناتو بوجه سياسة تركيا – أردوغان؟ هل يستطيعون المضي بعيداً في مواجهته ويصلون إلى حدود خوض مواجهة عسكرية إذا ما فرضت عليهم؟ ما هي الوسائل الردعية التي يمكن اللجوء إليها من قبل الأوروبيين للحد من مخاطر التوجه التركي؟ ماذا لو قرر الأعضاء الأوروبيون في الناتو فرض حصار على تركيا درءا للخطر القادم منها؟.

ليس من شك في أن أردوغان يستثمر الورقة الروسية في مجمل تحركاته ضد مصالح شركائه الأطلسيين، ولذلك يبتلع الكثيرَ من الضربات التي يتلقاها من موسكو في سوريا وفي ليبيا وحتى على المستوى الثنائي، لأنه يعتقد أن تفاهماته مع موسكو على أي مستوى كانت، تمنحه هامشاً للتحرك في حدائق الناتو الأوروبية أكثر مما لو كان وحيدا، لكن ذلك لا يعني أن الكرملين غافلٌ عن ما يدور في خَلَد أردوغان، بل ربما يبدو العكس هو الصحيح؛ أي أن بوتين يحقق الكثير من المكاسب الاستراتيجية والحيوية على حساب تهور أنقرة واندفاع أردوغان ضد الشركاء الأطلسيين.

المواقف المترجمة على أرض الواقع تفصح عن وحدة الأعضاء الأوروبيين في المنازلة الحالية بحدودها الردعية، ومصالح موسكو الاقتصادية والجيواستراتيجية مع الأوروبيين تشكل عنصرَ توازن لعلاقات الطرفين ولا تسمح باصطفاف روسيا في الخندق المواجه لأوروبا، وخطوط التماس المتوسطية تعطي الأولوية لدعم خيارات اليونان أوروبيا وهنا تتقاطع مصالح موسكو مع أثينا في بعدها التاريخي بكل ما يكتنزه من تقاطعات وامتدادات وحيوية استراتيجية ؛ حيث تشكل اليونان جزءاً مهما من ميزان علاقة الغرب عموما، وحلف شمال الأطلسي بشكل خاص مع روسيا، وإذا ما أضيف عنصرٌ تركي داخلي ببعديه السياسي – الحزبي؛ حيث الرفضُ المعلن لتهور أردوغان ولخلقه عداوات مع محيطه، والبعد الآخر الاقتصادي الذي يكشف عن تراجع غير مسبوق في قيمة العملة التركية مع زيادة نسبة التضخم نتيجة الانكماش الاقتصادي الكبير في البلاد، فإن المشهد يصبح أكثر وضوحاً لجهة الورطة الحقيقية التي باتت تطوّق أردوغان بالنظر إلى عوامل متعددة، أبرزها فَتحُهُ لجبهات مواجهة متعددة وتَقلّصُ خياراته في بعضها، ووصولُه إلى خطوط حمر رسمها بيده أمام نفسه في أماكن أخرى .

كثيرةٌ هي الوقائع التي تحمل مؤشرات على اختيار أردوغان نهجَ التصعيد في المتوسط في محاولة يائسة لفرض أجندته على الآخرين من أصحاب الحقوق والمصالح في كنوزه، لكنّ وحدةَ موقف عواصم الغرب من دول الناتو في مواجهة التعنت التركي تعكس أمرين: الأول الرفض التام لنهج أردوغان؛ وقد ترجمت أولى ملامحه عملياً بزج قطع بحرية في المتوسط كإنذار لأنقرة كي تدرك جاهزية دول أعضاء في الناتو للذهاب إلى أسوأ الخيارات ومنها العسكرية في حال اقتضى الأمر ذلك، والأمر الثاني وضع تركيا أمام تحدّ ذاتي بشأن قدراتها العسكرية وقابليتها لخوض مغامرة عسكرية ضد شركائها الأوروبيين في الناتو.

في جميع الاحتمالات تبدو الخيارات التركية في حالة تراجع أيّاً كانت مآلات الوضع في المتوسط؛ سواء تم التوصل إلى تفاهمات، أو انزلق الجانبان نحو مزيد من التصعيد، في الاحتمال الأول أي التفاهم، فلن يكون لتركيا – أردوغان ما سعت إليه بعد افتضاح نواياها وأهدافها، ولن يسمحَ لها الغربُ من أهل الناتو بحيازة كل شيء، وستكون مجبرةً على احترام حقوق الآخرين والإقرار بها، وفي الاحتمال الثاني، أي التصعيد والمواجهة، فلن يكون ميزانُ القوى لمصلحة تركيا – أردوغان عسكرياً وسياسياً في مياه المتوسط بعد تضامن أوروبا الأطلسية مع اليونان ضد سياسة أنقرة، وستكون هذه السياسة جزءاً من حسابات الربح والخسارة لدى الناتو في مواجهة أطماع أردوغان .

نقلا عن العين الإخبارية

Exit mobile version