ما ترك الغنوشي لتونس

علي الصراف


يمضي زعيم حركة النهضة في تونس في الطريق ليصبح واحدا من أسوأ ما لتونس من ذكريات.

المتغيرات داخل حركة النهضة وخارجها، تشير إلى أن راشد الغنوشي لم يعد إلا واحدا من رجال الماضي، الذين تجاوزتهم الأحداث والأيام. وهو كلما نطق بشيء جديد، أعاد التذكير بما يود التونسيون لو أنهم ينسونه.

انتقاداته لإجراءات الإصلاح التي ينفذها الرئيس قيس سعيد، وبضع المئات الذين هم كل ما بقي له من مناصرين، لم تعد مما يشكل عائقا معطلا، ولا حتى حجر عثرة في طريق إعادة بناء الديمقراطية في تونس.

ولكن لو شاء التونسيون أن يتذكروا شيئا من إرث الغنوشي في بلادهم، فماذا عساهم أن يتذكروا إلا الفشل؟

عرفت تونس خلال الأعوام العشرة الماضية، 12 حكومة، سبقت حكومة السيدة نجلاء بودن التي تشكلت في أكتوبر الماضي بتكليف من الرئيس قيس سعيد. أي إن معدل عمر الحكومة الواحدة كان يبلغ 10 أشهر فقط. وما كان ذلك إلا دليل قاطع على أن البلاد تعيش في حالة فوضى سياسية، وكان لا بد لهذه الفوضى أن تنعكس على الأوضاع الاقتصادية للبلاد.

الحكومة الأولى بعد التغيير، والتي تولاها الغنوشي في 17 يناير 2011، لم تعمر أكثر من عشرة أيام. أما حكومته الثانية التي تولاها في 27 يناير 2011، فلم تعمر هي الأخرى أكثر من 39 يوما، وذلك بعد استقالة عدد من الوزراء، مما أجبر الغنوشي على عدم تكرار السعي، فتولى الباجي قايد السبسي قيادة الحكومة الثالثة في 7 مارس 2011.

كان ذلك، بمفرده، مؤشرا مبكرا على أن الفوضى ستكون هي المسار، وهو ما حصل بالفعل.

حركة النهضة ظلت هي القوة المهيمنة على طول مسار الاضطرابات التي حاقت بالبلاد. فسقطت الحكومة تلو الأخرى، وتحول تشكيل الحكومات إلى واحد من أسوأ نماذج المساومات وشراء الضمائر ورعاية المصالح الخاصة.

ولم يكن البرلمان إلا بمثابة سوق، تحت اسم الديمقراطية، لبيع وشراء التحالفات والنواب والوزراء، بقصد تمكين حركة النهضة من التسلل إلى مؤسسات الدولة المدنية.

ولقد دفع اقتصاد البلاد الثمن الأكبر، حتى بلغ السيل الزبى بالفشل الذي كرسه تحالف الفساد والإسلام السياسي الذي سيطر على حكومة هشام المشيشي.

قبل عام 2011 كانت تونس تفخر بأن الطبقة الوسطى فيها هي الأوسع، وتبلغ نحو 70% من السكان. هذه الطبقة انحسرت بعد 10 سنوات إلى أقل من 40%.

وهو مؤشر صارخ على كارثة اجتماعية واقتصادية تهز أركان الاستقرار، حتى وإن لم تهز أركان الضمائر لدى قادة النهضة. وفي جوار هذا الانهيار، فقد ارتفعت معدلات البطالة إلى 21.9%، وبلغت بين أوساط الشباب، نحو 40%، وأضيف في العام الماضي وحده أكثر من 274 ألف عاطل جديد عن العمل. وزادت نسبة الفقر لتشمل 20% من السكان.

وبحسب تقرير تم إنجازه بالتعاون بين المعهد الوطني للإحصاء والبنك الدولي، فقد سجلت معتمديات مثل حاسي الفريد وجديلان والعيون معدلات فقر تزيد على 50%. وبينما كان يُعتقد أن المناطق الساحلية أقل تعرضا لمخاطر الفقر، فقد سجلت معتمديات مثل شربان من ولاية المهدية، وسجنان من ولاية بنزرت معدلات فقر تبلغ 39.9%.

وبينما كانت تونس تسجل معدل نمو سنوي يزيد على 5% قبل عام 2011، فإن معدلات النمو ظلت تتراجع حتى سجلت انكماشا بلغ 7% في العام الماضي ونموا ضئيلا بلغ 0.3% فقط في العام الحالي. كما تراجع الاستهلاك الأسري بنسبة 8%. وبحسب إحصاءات وزارة التربية والتعليم، فقد بلغت أعداد الذين لم يلتحقوا بالمدارس 100 ألف طالب. وقال المعهد الوطني التونسي للإحصاء إن 37% من الشركات الخاصة تواجه خطر الإغلاق الدائم. وبحسب تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لشهر أكتوبر 2020، فقد توقع صندوق النقد الدولي أن تبلغ نسبة التضخم 5.4 بالمائة وأن يبلغ العجز 8.3 بالمائة. إلا أن النتيجة كانت أسوأ هذا العام بنسبة تخضم زادت على 6%. وبدلا من التقديرات التي قالت إن عجز الموازنة سيبلغ 2.4 مليار دولار، فإن الواقع الحقيقي قال إن العجز بلغ 3.4 مليار دولار. ومع نسبة نمو ضئيلة فإن قدرة البلاد على خدمة الديون بدأت تنكمش إلى مستويات خطيرة.

هذه هي تركة الغنوشي. وهي تعبير لا جدال فيه عن حقيقة أن هيمنة حركة النهضة على البرلمان والحكومات المتعاقبة، دفعت بتونس إلى حافة الهاوية.

وبحسب المنطلقات الأيديولوجية للنهضة، فإن سقوط البلاد في الهاوية، ما كان ليعنيها بأي شيء. ولكن الفشل فشل في النهاية، و11.8 مليون تونسي هم الذين يدفعون ثمنه. وما لم تكن الأرقام والحقائق المجردة قادرة على الكشف عن طبيعة الذين يقفون وراء الفشل، فإن الجدال حول دور البرلمان، لن يكون إلا جدالا فارغا يقصد التغطية على هذه الحقائق.

الغنوشي أدى دوره تماما بدفع تونس إلى ما هي فيه الآن. وكان من الأولى به، لو كان يملك ضميرا حيا، أن يكف ويكتفي بما ترك، بدلا من أن يواصل تذكير التونسيين بأنه ما يزال يرغب بتكرار ما صنع.

Exit mobile version