استكمالا لمقالنا “مقدمة في خلفية ما يجري الآن”، والتي حاولنا فيها استجلاء التطورات الجارية في عالم اليوم.. فإننا الآن سوف نتعرف عن ذلك الجديد الذي جد على العلاقات الدولية في التاريخ المعاصر.
ذاك الذي في أوله أننا ربما نواجه لأول مرة في التاريخ الإنساني عالما “ثلاثي الأقطاب” – الولايات المتحدة وروسيا والصين- فما عرفناه من قبل هو عالم القطب الواحد “الإمبراطورية الرومانية، وبريطانيا العظمى، والولايات المتحدة الأمريكية”، كما عرفنا عالم القطبين “الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي”، ومن قبلهما العالم متعدد الأقطاب، الذي ساد في عالم ما بين الحربين، وكان فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان.
في كل تركيبة من تراكيب القوة والقطبية تخلقت تقاليد في التحالف وإقامة توازنات القوى والوساطة واستخدامات الدبلوماسية والسياسة والقوة العسكرية.
القطبية الثلاثية التي لا تزال في أولها لم تشق طريقها بعد لكي تخلق عالمها في القرن الحادي والعشرين.. كل ما نعرفه أن القطبية الثلاثية تأتي في ظروف مختلفة تاريخياً عما كانت عليه الحال طوال القرن العشرين والبدايات الأولى للقرن الحالي.
التطورات التكنولوجية أعطت للأطراف الثلاثة ما لم تُعطه إلى دول وقوى أخرى، مثل الهند أو الاتحاد الأوروبي، وهو ما خلق ضغوطاً كبرى على ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.. ولكن ربما كانت أهم الظروف التي تميز هذه المرحلة، ذلك الظرف الخاص بتوالي نظم سياسية متعددة في واحد من أهم الأقطاب الثلاثة: الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد بدأت الألفية الثالثة، والدولة الأمريكية هي القطب الأعظم في العالم، والذي يحكمه جورج بوش الابن قائدا لجماعة “المحافظون الجدد”، المصممة على أن يكون القرن الحادي والعشرين قرنا أمريكيا خالصا.. ولكن بعد أقل من عقد على تولي باراك أوباما الديمقراطي السلطة، وهو يرى أن مشكلة العالم هي تجاوز الولايات المتحدة لحدودها وقدراتها.
وفي 2016 تولى دونالد ترامب الإدارة الأمريكية، وما أسفر عنه من موجة يمينية محافظة تقوم على العزلة، وأن “الدولة-أمريكا- أولا”، وسرعان ما انتشرت في العديد من دول العالم.
وفي 2020 نجح الديمقراطيون الأمريكيون في استعادة السلطة مرة أخرى تحت قيادة “بايدن”، الذي عبر عن رغبته في إعادة صياغة العالم وفق معادلة “الديمقراطية في مواجهة السلطوية”.
هذه التغيرات السريعة في القطب الهام خلقت حالة من التخبط حول الكيفية، التي يدار بها النظام العالمي.
وكأن ذلك ليس كافيا فقد جرت المراجعات لطبيعة النظام العالمي، والنظم السياسية المختلفة، بعد ظهور جائحة كورونا، التي شكلت ظاهرة فارقة في العالم كله.
وجوهر الأمر هو سرعة انتشار الفيروس داخل الدول وبينها، بل وحتى انتقاله بين القارات. ولكن الثابت أن العجلة في البحث عن العالم الجديد تحاول تجاوز ما الذي يعنيه “كوفيد-19” وتأثيراته على العالم إلى القفز فورا إلى إعادة تركيب الدنيا كلها وتوزيع القوة فيها، رغم أن كثيرا من متغيرات ذلك كانت حادثة قبل 12 يناير 2020 عندما تم الإعلان عن أول مريض في “ووهان” الصينية.. ساعتها كان معروفا أن الصين قوة صاعدة في النظام الدولي، وكان معروفا أن الولايات المتحدة آخذة في الانسحاب من العالم، وكان “البريكسيت” أول الإشارات إلى أن الاتحاد الأوروبي ليس كما يبدو عليه. كان التغيير كما يقال مكتوبا فوق الحائط الزمني، أن العالم يتغير في اتجاهات جديدة سبقنا في الحديث عن عالم ثلاثي الأقطاب، وعالم ما بعد الثورة العلمية الرابعة. ومن الممكن أن يكون “كوفيد-19” كاشفا عن أمور تغيرت بالفعل وظهرت خلال الأزمة.. مثل ذلك حدث عند سقوط جدار برلين عام 1989 ووضع نهاية للحرب الباردة، أو انهيار بنك “ليمان براذرز” في 2008 وأشعل نار أزمة مالية واقتصادية عالمية، فإن جائحة فيروس كورونا حدث مدمر على مستوى العالم والنظام العالمي بكامله لا يمكننا أن نتخيل عواقبه بعيدة المدى.
الأمر الذي اتفق عليه المحللون والمراقبون هو أن العالم يتغير نتيجة “كوفيد-19″، ولكن ما اختلفوا عليه كان مدى التغيير، وفي أي اتجاه، وفي ذلك انقسموا إلى اتجاهين: أولهما أن العالم ينقلب رأسا على عقب، باختصار يكون هناك عالم آخر.. وثانيهما أن الأزمة في حقيقتها “كاشفة” عن عالم كان يتغير بالفعل، وما علينا إلا مراقبة ما كان من تغيرات تكنولوجية وفي توازنات القوى الدولية.
ولكن ما بين الاتجاهين مسافات كثيرة وظلال بين وجهة نظر وأخرى.. وفي هذه الحالة فإن “جائحة كورونا” أدت إلى تحطيم الحياة حينما تم تعطيل الأسواق، فالمتصوَّر بعدها أن تحدث تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية. وفي الثانية فإن صعود الصين، والتطور التكنولوجي الذي دمج ثورة المعلومات مع ثورة التكنولوجيا الحيوية خلقت ثورة تكنولوجية عالمية رابعة، حتى قبل أن تترسخ نتائج الثورة الثالثة، والظهور الكبير لما سُمي “سياسات الهوية”، التي تجابه “سياسات العولمة”، وتعطي أهمية متزايدة للدولة الوطنية، حتى ولو جاءت على حساب مصالح عالمية، منها مواجهة تحديات الوباء وتغيرات المناخ.
أصبح العالم يدخل عصرا جديدا من تفكيك العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، التي كان لها أصولها قبل أزمة كورونا، ليس فقط لأن العالم عرف ذلك من زاوية الجغرافيا السياسية من خلال “البريكسيت”، ولكن لأن الشركات تجد استمرار العولمة كمحرك للاقتصاد العالمي أكثر صعوبة، وتجد نفسها مضطرة لأن تعيد تشكيل سلاسل الإمداد العالمية بتوطينها محليا.
فالمتصوَّر بعد الأزمة أن تحدث تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية تشكل ملامح النظام العالمي الجديد بعد الوباء. واقتصاديا يواجه العالم أكبر أزمة اقتصادية، ومن الواضح أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو الركود، وتتصاعد الأعباء الاقتصادية على الدول، وتتزايد معدلات الفقر، والأمن الغذائي يواجه العديد من التهديدات، بالإضافة إلى اختلالات حادة في المؤشرات الكلية للاقتصاد.
وفي النهاية قد يظهر نظام عالمي جديد، يعالج بالفعل مشكلات القرن الحادي والعشرين بما فيه من تحديات التفكيك للعولمة والنظم الإقليمية، والمواجهة مع أنماط تكنولوجية جديدة جعلت التواصل الإنساني يزيد، بينما العزلة وسياسات الهوية تتأصل مع كل لحظة. قد يبدو الأمر كله متناقضا، ولكن كان هذا دائما هو مفتاح التطور الإنساني.