“كشف الغاز”.. وتهافت الخطاب التركي
في ضجة كبيرة ووسط حملة دعاية فجة أعلن الرئيس التركي يوم الجمعة 21 أغسطس حسب قوله عن “اكتشاف تاريخي للغاز الطبيعي“، حيث “تم اكتشاف حقل يحتوي على نحو 320 مليار متر مكعب من الغاز في البحر الأسود”. وصحيح أنه في حالة تركيا التي تعتمد على الخارج في تغطية نحو 99% من احتياجاتها من الغاز سنويا فهذا الاكتشاف يشكل نقله نوعية، إلا أن الترويج لهذا الاكتشاف جاء في الحقيقة محملا بالدعاية السياسية الغوغائية، بهدف دغدغة عواطف المواطنين الأتراك، الذين يعانون من ارتفاع معدلات البطالة والتضخم ووسط انهيار متواصل لسعر صرف العملة التركية. وليس أدل على ذلك من قول رجب طيب أردوغان “هذه الاحتياطيات تعد حقيقة جزءا من موارد أكبر كثيرا. وبمشيئة الله، هناك الكثير سوف يأتي. وكبلد اعتمدت على الخارج للوفاء بحاجتها من الغاز لسنوات، فنحن ننظر للمستقبل الآن بمزيد من الثقة. ولن يكون هناك توقف حتى نصبح مصدرين صافين للطاقة”. أي أنه حسب الرئيس التركي ستنتقل بلاده مرة واحدة من بلد يعتمد على الخارج في تغطية كافة احتياجاته تقريبا من الغاز والنفط إلى بلد مصدر صاف للطاقةّ!.
يعلم الشعب التركي باعتماد بلاده البالغ بالأساس على روسيا المزود الأكبر لبلاده بالغاز عبر الأنابيب وإلى حدود أقل على إيران وأذربيجان. إلى جانب استيراد الغاز المسال من الجزائر وقطر والولايات المتحدة وغيرها من البلدان.
والواقع أن هناك العديد من الجوانب التي تستحق الوقوف عندها لكشف الحالة الهزيلة والغوغائية التي وصل إليها الخطاب السياسي التركي في محاولة الخروج من أزماته، خاصة الاقتصادية، التي أثرت بقوة على شعبية الحزب الحاكم وفي شعبية أردوغان.
الجانب الأول الذي يستحق الانتباه يتعلق بحجم الحقل المكتشف، فهو اكتشاف معقول ولكنه ليس بالاكتشاف الضخم. فاحتياطات الحقل التركي تبلغ على سبيل المثال أقل من 40% من الاحتياطيات التي يحتويها حقل ظهر المصري الذي تبلغ احتياطاته 850 مليار متر مكعب. الأمر الثاني المهم هو أنه كما هو معروف لا يعد الاحتياطي الذي يحتويه أي حقل قابل كله للاستخراج، هذا إذا كان الحقل مجديا اقتصاديا من حيث الأساس. ففي غالب الأحيان تعد النسبة القابلة للاستخراج 60% نسبة كبيرة للغاية. وفيما يتعلق بالحقل التركي فإن الإجابة على السؤال الخاص بما هي كمية الغاز القابلة للاستخراج من هذه الاحتياطيات، وما هي الكمية التي يمكن إنتاجها سنويا؟ ما تزال تعد مبكرة جدا.
ومع هذا يتعامل السياسيون الأتراك مع الاحتياطي المذكور للحقل وكأنه قابل كله للاستخراج. فقد صرح وزير الطاقة والموارد الطبيعية فاتح دونماز بأنه “يمكن القول بأن القيمة الاقتصادية لنحو 320 مليار مترا مكعبا من احتياطات الغاز الطبيعي التي تم اكتشافها في البحر الأسود يمكن أن تصل إلى 65 مليار دولار، وذلك طبقا لأسعار الغاز خلال الأعوام الثلاثة إلى الخمسة الأخيرة”.
وأنظر أيضا إلى تصريحه “هذا الاكتشاف، حتى إذا لم نجد أي موارد جديدة، سوف يفي باحتياجات بلادنا لمدة سبعة إلى ثمانية أعوام ” وهو التصريح الذي كان يشير فيه إلى حقيقة أن استهلاك تركيا السنوي من الغاز الطبيعي تقدر بنحو 45-50 مليار متر مكعب.
الجانب الثاني هو التأثير المتوقع لهذا الاكتشاف على الوضع الاقتصادي التركي، وخاصة على عجز الحساب الجاري. فقد صرح “بيرات البيرق” وزير الخزانة والمالية وزوج ابنة أردوغان بقوله ” سوف نتخلص من عجز الحساب الجاري من على أجندة بلادنا” في تضليل كبير يجافي الواقع. فقد بلغ عجز الحساب الجاري خلال الأشهر الستة الأولى فقط من العام الحالي نحو 19.5 مليار دولار. وإذا نظرنا إلى الغاز وحده سنجد أن تركيا كانت قد استوردت في العام الماضي 45.3 مليار متر مكعب من الغاز، وكلفها ذلك نحو 12 مليار دولار. ولذلك فإنه حتى في حالة إنتاج 10 مليار متر مكعب من الغاز سنويا وهو رقم كبير، فمن المقدر أن ينخفض عجز الميزان التجاري لتركيا بنحو 3 مليار دولار سنويا فقط. هذا ناهيك عن أن تاريخ بدء الإنتاج وكمية الإنتاج لم يتحددا بعد.
إلى جانب ذلك فقد كانت هناك آثار فورية للتوقعات التي أثارها هذا الكشف، فقد ارتفع سعر صرف الليرة التركية نحو ثلاثة في المئة في الأيام التي تلت قول أردوغان إن لدية “أنباء طيبة” سيكشف عنها، وبعد أن أشارت وسائل الإعلام إلى أن هذه الأنباء تتعلق بحقل للغاز يحتوي على ما يصل إلى 800 مليار متر مكعب. ولكن الليرة أنهت يوم الجمعة، الذي أعلن فيه الرئيس التركي عن حقيقة الاكتشاف، وهي منخفضة 0.7% ثم واصلت العملة تدهورها في الأيام التالية.
الجانب الثالث هو ذلك المتعلق بتاريخ بدء الإنتاج فقد صرح أردوغان بأن إنتاج الغاز من الحقل المكتشف سيبدأ في عام 2023. ويتشكك الكثير من الخبراء في إمكانية بدء الإنتاج من الحقل في عام 2023. إذ أن بدء الإنتاج في نظرهم عند هذا التاريخ أمر مستحيل فنيا. فقد أشاروا إلى العملية الطويلة الضرورية التي تتم حتى يبدأ الإنتاج والتي تشمل حفر آبار استكشافية جديدة، وإجراء المزيد من الاختبارات ثم عملية التطوير والحفر والإنتاج. وفي نظرهم فإن عملية الإنتاج سوف تستغرق من ستة إلى سبعة أعوام. وخاصة مع الوضع في الاعتبار افتقار البحر الأسود للبنية التحتية اللازمة.
الجانب الرابع يتصل بمن سيقوم بعملية تطوير الحقل والإنتاج. وحسب تصريحات وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فإنه “خلال الفترة المقبلة، سوف نقوم بالمسح السيزمي بأنفسنا وسوف تتم مباشرة العملية بأكملها عن طريق شركة تركيا للبترول”. هذا في الوقت الذي يشير فيه الخبراء إلى أن عمق الحقل المكتشف يبلغ 3500 متر منها 2100 متر في البحر ثم 1400 متر تحت قاع البحر وعلى مثل هذا العمق توجد القليل من الشركات فقط التي تمتلك المعدات اللازمة لإنتاج الغاز، أي أنه فنيا من غير الممكن تطوير الحقل والإنتاج اعتمادا على الشركة التركية وحدها. هذا بالطبع إلى جانب أن عملية استكمال الاستكشاف ووضع الحقل قيد التطوير والإنتاج تحتاج إلى مليارات الدولارات.
هكذا إذا سادت الطنطنة الدعائية الفارغة الخطاب السياسي التركي، وكأن اكتشاف حقل واحد للغاز يحتوي على احتياطات متوسطة هو البلسم الشافي لكافة أوجاع الاقتصاد التركي. والهدف الحقيقي من هذا الخطاب هو تنفيس الغضب المكتوم داخل الشعب التركي بالقول إنه قريبا وخلال سنوات قليلة ستنتهي كافة مشكلاته وتنهمر عليه الثروة.
نقلا عن العين الإخبارية