سياسة

في “مواجهة” تركيا وإيران

بهاء العوام


في التصريحات العربية تسهل إدانة التدخلات الإيرانية والتركية في شؤون دول المنطقة، ويسهل أيضا التصعيد ضد الدولتين إلى حدود السماء.

لكن عندما نتحدث عن إجراءات تصبح الخيارات قليلة، وتبرز الحاجة إلى تفكير استراتيجي حقيقي لتجاوز كثير من المعضلات والمتناقضات في هذا الشأن.

المشكلة في صوغ إجراء عربي موحد ضد تدخلات الدولتين تكمن في أربعة تحديات رئيسية، أولها عدم اتفاق الدول العربية على تصنيف سلوك إيران وتركيا كـ”تدخل خارجي وتعدٍ على السيادة”، فالبعض يعتبر الدولتين “حليفا استراتيجيا”، حتى بالمقارنة مع الأشقاء العرب.

هناك أنظمة عربية تتحالف مع إيران وتركيا، ولا يمكن لها أن تفرّط في هذا التحالف حتى لو كان يمس بالمصالح العربية، أو يفتح الأبواب أمام الدولتين لتصنعا موطئ قدم يمهد لاحتلال مباشر، أو على الأقل يمكّنهما من الهيمنة على دول عربية بكل مقدراتها السياسية والاقتصادية.

الأمثلة كثيرة على أشكال التحالفات بين بعض الدول العربية مع إيران وتركيا، ولكن استدعاءها لا يفيد.. ما يفيد هو قراءتها في سياق تاريخي تراكمي، وظروف دولية وإقليمية أفضت إليها، فمن هنا يجب أن يبدأ البحث عن إعادة صياغة العلاقة مع الدولتين، وقد أدركت دول عربية هذه المعطيات وشرعت في البناء عليها.

أول الأسس، التي يجب أخذها بعين الاعتبار، هو أن الآلية الناجعة للتعامل مع نفوذ إيران مثلا في المنطقة لا تصلح بالضرورة لمواجهة تركيا، والعكس صحيح.

فإيران شرعت في مد أذرعها داخل دول بالمنطقة، كما أن نظام الولي الفقيه استغل سنوات الصراع العربي الإسرائيلي بطريقة انتهازية جدا، فصنع لنفسه ما يسمى بـ”محور المقاومة”، الذي سُجنت أربع دول عربية في فلكه، وباتت تدور حول نفسها دون أي طائل سياسي أو اقتصادي أو عسكري.

حامل التمدد الإيراني في المنطقة كان فكرة عقائدية، وعلى مدار أكثر من أربعة عقود استغلت إيران الظروف الدولية والإقليمية، التي سمحت برواج مثل هذه الفكرة، واستغلت أيضا كل الإشكاليات التي مرت بها الدول العربية خلال هذه السنوات الطويلة، خاصة مشكلة الإرهاب التي تفجرت خلال العقد الأخير. 

أما المد التركي فوصل إلى المنطقة أيضا على أجنحة الإسلام السياسي، فاستغلت تركيا جماعة الإخوان الإرهابية لتحقيق أهدافها التوسعية في سوريا وليبيا.

واستثمرت تركيا ظروفاً دولية وإقليمية مواتية لتحقيق غاياتها، وعلى رأسها الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي، التي خاضتها أمريكا وحلفاؤها منذ 2014.
في الحرب على الإرهاب تبنّت تركيا وحدها، دون بقية دول التحالف الدولي ضد “داعش”، تعريفا أشمل ضم حزب العمال الكردستاني إلى جوار “داعش”، مما أتاح لتركيا تعزيز نفوذها في العراق، وتوسيع مناطق احتلالها داخل العمق السوري.

هذا التشابه في السياسات، إن جاز التعبير، يواكبه تشابه في الأدوات، حيث إن كلاً من إيران وتركيا باتت لهما أذرع ومليشيات وأبواق ومرتزقة في الدول العربية، التي يتمددان فيها.

والمؤيدون للدولتين ينقسمون بين منتفعين وواهمين، منتفعون يلاحقون مصالحهم الخاصة الضيقة، وواهمون يتبعون أحلاما لم ولن تتحقق، لأنها ببساطة مجرد شعارات تفتقر إلى المقومات، التي يمكن أن تحيلها إلى واقع في يوم من الأيام.

وكما يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “مَن كان يحيا بمحاربة عدو ما، تصبح له مصلحة في الإبقاء على هذا العدو حياً”.

مقابل نقاط التشابه تلك، هناك اختلافات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند البحث عن الآليات المناسبة للتعامل مع أطماع إيران وتركيا في المنطقة، خاصة التباين في مكانة الدولتين على الخارطة العالمية، فتركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، إلى جانب أمريكا والاتحاد الأوروبي، وإيران مجرد دولة “مارقة” تهدد الأمن والسلم الدوليين بصواريخها وقنبلتها النووية، التي لم تُصنع بعد.

الدولتان يريد المجتمع الدولي التفاوض معهما بسبب موقعهما، فلا أحد يريد إشعال حرب مع تركيا والناتو، وجميع الدول الكبرى تفضل، للأسف، التفاوض مع إيران بغية الوصول إلى اتفاق يضبط برنامجها النووي، لكنه يتجاهل سلوكها الإقليمي، وبالتالي من يريد مواجهة أي من الدولتين يجب أن يعرف أن العالم لن يكون إلى جانبه إن اختار الطريقة الخطأ.

لا يواجَه النفوذ الإيراني والتركي بالقوة العسكرية، حتى وإن كانت متوفرة لدى كثير من دول المنطقة، وإنما بمعالجة الأسباب، التي سمحت للدولتين بالتمدد في المنطقة العربية، وملاحقة الأدوات التي تتغلغلان عبرها في الحياة الاجتماعية أو العسكرية أو الاقتصادية لبعض دول المنطقة، بالإضافة إلى كشف زيف المسوغات، التي تسوقها الدولتان لتبرير اعتداءاتهما أو انتشارهما في هذه الدول.

التجربة المصرية في محاصرة أطماع تركيا في شرق المتوسط وليبيا مثال جيد على هذه الطريقة من المواجهة.. لقد نسجت القاهرة تفاهمات مع خصوم تركيا في المنطقة والعالم، ومدت جسور التعاون إليهم من أجل لجْم أطماع أنقرة، فكانت النتيجة أن جاءت تركيا طالبة الصلح، وسعت نحو عودة العلاقات المصرية التركية.

كذلك فإن الانفتاح العربي الأخير على دعم ومساعدة العراق وسوريا ولبنان اقتصاديا، هو مثال آخر جيد على مواجهة نفوذ إيران.. خاصة أن هذا الانفتاح يأتي بتنسيق دولي، وبتفاهمات تعكس إدراك دول، مثل مصر والأردن، لمواطن خوف الدول الكبرى في التعامل مع المنطقة، وسقوف تنازلاتها لطهران في مقابل اتفاق نووي.

الشيء الآخر المطلوب في “المواجهة” مع الإيرانيين والأتراك هو إجراء حوار ما معهما، ليس خوفا وإنما تقليصا لمناطق الاحتكاك من جهة، ومن جهة أخرى سعيا نحو حلحلة بعض الإشكاليات الصغيرة، التي تتخذ منها الدولتان ذرائع للتمدد في المنطقة العربية.

لقد أثبتت التجربة أن سياسة الأبواب الموصدة تماما مع الخصوم لا تُجدي نفعا، وربما قد حان الوقت للإصغاء إلى ما قاله الملك الفرنسي هنري الرابع قبل أكثر من أربعمائة عام: “أفضل وسيلة للتخلص من العدو هي أن تحوله إلى صديق”.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى