عن مخاطر عودة داعش إلى البادية السورية
شهدت منطقة البادية السورية، خلال الأسابيع القليلة الماضية، سلسلة هجمات دامية لتنظيم داعش الإرهابي ضد قوات الجيش السوري.
فضلا عن عمليات اغتيال استهدفت وجهاء قبائل عربية وعناصر من قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ومع هذه الهجمات، زادت التكهنات بعودة ثانية للتنظيم، بعد الهزيمة المدوية التي لحقت به في بلدة الباغوز شرقي الفرات، على يد “قسد” ، بدعم من التحالف الدولي لمحاربة داعش.
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن البادية السورية تشكل قرابة نصف مساحة سوريا، وتشكل منطقة تمتد من بادية السويداء جنوبا إلى أرياف محافظات ريف دمشق ودير الزور وحمص، وصولا إلى أرياف محافظتي الرقة وحماة في الوسط، وتزخر هذه المنطقة الشاسعة بالمغاور والجبال والكهوف والرمال المتحركة، أي أنها تشكل بيئة جغرافية خصبة للاختباء، والقيام بهجمات الكر والفر، إذ إن تنفيذ هجمات في هذه البقعة الجغرافية لا يحتاج سوى إلى عدد قليل من العناصر وأسلحة هجومية قاذفة، وهو ما يصعب محاربة التنظيم في هذه الظروف، وهي ظروف ساعدت التنظيم على إعادة تنظيم صفوفه منذ الهزيمة الكبرى التي تعرض لها في الباغوز قبل نحو عامين، إذ من الواضح أن هذه الهجمات نقلت التنظيم إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة الهجوم على القطاعات العسكرية، واستهداف حافلات النقل، والقيام بعمليات اغتيال هنا أو هناك.
في الحقيقة، التحذيرات من عودة جديدة لداعش ليست بجديدة، إذ سبق أن تحدثت مؤتمرات وتقارير كثيرة عن ذلك، حيث يرى كثيرون أن الهزيمة التي لحقت بداعش في الباغوز، ومن قبل في الموصل العراقية، لم تكن سوى هزيمة مكانية، أي أنها أدت إلى انهيار مفهوم الدولة لدى التنظيم كجغرافيا، في حين بقي التنظيم يتمتع بإمكانات مالية وأمنية وعسكرية واستخباراتية وإعلامية كبيرة، ولعل التغيير المهم الذي حصل على صعيد آلية عمل التنظيم هو الانتقال من مركزية زعيمه المقتول البغدادي إلى آلية محلية لا مركزية، في كل ولاية يعمل فيها التنظيم، وهو ما أعطى قوة غموض لعمل التنظيم وخلاياه، وقد تجسد هذا الأمر فعليا في الانتقال من أسلوب الهجوم الشامل والعلني للسيطرة على المدن والمناطق إلى ما يشبه حرب العصابات، ومن هنا، انتشر مفهوم الذئاب المنفردة، أي العمليات التي تعتمد على شخص واحد.
ومع أن التنظيم فقد الكثير من بريق شعاراته الأيديولوجية، خاصة في ظل استمرار وجود آلاف المسلحين التابعين لداعش في سجون “قسد”، ورفض دولهم تسلمهم حتى الآن وبقائهم من دون محاكمة.
ولعل من أهم العوامل المشجعة لعودة التنظيم الظروف الأمنية التي تمر بها المنطقة، فاستمرار الصراعات والحروب والفوضى في ظل غياب الحلول السياسية والتسويات، إلى جانب الفساد والظلم والاستبداد والمحسوبية والطائفية، كلها تشكل عوامل مشجعة لعودة داعش من جديد.
وأبعد مما سبق، ثمة من يرى أن الدور الوظيفي لداعش لم ينتهِ، خاصة أن الكثير من الدول تربط تنفيذ أجنداتها السياسية باستمرار التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها داعش والنصرة، كما أن التنافس الدولي والإقليمي على الساحة السورية أثر سلبا على وتيرة محاربة داعش، بل إن إعطاء الحكومة السورية وروسيا الأولوية للوضع في إدلب وشرقي الفرات مقابل التخفيف من الخطر الوجودي لداعش في البادية، وفّر للتنظيم فرصة مهمة لإعادة ترتيب صفوفه، خاصة أن محاربته في البادية تحتاج إلى هجمات جوية ذكية، لا مواجهات مباشرة.
في الواقع، الحديث عن إمكانية عودة ثانية لداعش لا يستند إلى التحليل السياسي المتعلق بسيرة التنظيم وتاريخه وفكره وإمكاناته فحسب، وإنما إلى واقع الهجمات الأخيرة التي شنها التنظيم للسيطرة على مناطق في سوريا، إذ كشفت هذه الهجمات عن قدرة ميدانية واستخباراتية كبيرة للتنظيم، وعن مرونة في التكيف مع ظروف مرحلة ما بعد انهيار التنظيم كدولة لها مفهوم جغرافي، إذ بات العنوان الجديد للمرحلة هو الانتقال من أسلوب السيطرة على المدن والمناطق إلى ضرب المناطق الريفية والمنشآت الحيوية، إلى مرحلة جديدة، عنوانها العام، استنزاف الجميع في معركة الانبعاث من جديد.
وعليه، مع بقاء جيوب لتنظيم داعش في سوريا والعراق، وانتشار عناصره في العديد من مناطق العالم، واضح أن خطر التنظيم مستمر، على شكل تهديد خفي للأمن العالمي. وعليه، يمكن القول إن مسألة استمرار الحرب على التنظيم ومكافحة انتشار نفوذه قضيتان حيويتان في المرحلة الحالية والمقبلة، ويتطلب هذا الأمر استراتيجية متكاملة وبرامج تنفيذية، كي تكون الخطوات المقبلة فعالة وتحقق أهدافها، لعل من أهم هذه الخطوات:
1- استمرار التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في حربه ضد داعش على الأراضي السورية والعراقية.
2- التعاون الأمني والاستخباراتي على المستوى الدولي، وتشكيل ما يشبه بنك معلومات عالميا في خدمة الحرب ضد داعش، وملاحقة خلاياه النائمة والمتنقلة.
3- التعاون الجاد من أجل إيجاد آلية قانونية للتعامل مع مخلفات داعش، لا سيما آلاف العناصر التي تم أسرها واعتقالها خلال الحرب ضد التنظيم في شرقي الفرات، إذ إن استمرار وضع هؤلاء دون محاكمات يشكل خطرا دائما.
4- ضرورة التحرك السياسي من قبل الدول الكبرى لوضع حد لأجندات إقليمية تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في عودة داعش من جديد،
ولعل المثال الأبرز على هذه الأجندات، التهديدات التركية المتواصلة شرقي الفرات، والتلويح الدائم بغزو عسكري لهذه المنطقة، وهو ما يدفع “قسد” إلى التركيز على حماية أمن المنطقة الحدودية على حساب الحرب على الخلايا النائمة لداعش، ووضع برامج عملية وفعالة ومتكاملة لمكافحة التنظيم في مرحلة ما بعد هزيمته العسكرية.
من دون شك، هذه الخطوات وغيرها تشكل استراتيجية لمكافحة التنظيم، ومنع عودته من جديد، ومن دون ذلك، فإن خطر التنظيم سيظل ماثلا ويتعاظم في المرحلة المقبلة.