سياسة

بعد سنوات من الأزمة.. هل بدأت العراق تتعافى اقتصاديًا؟


في قلب الشرق الأوسط، تظل العراق دولة ذات أهمية استراتيجية وجغرافية، لكنها تعاني من أزمات متراكمة أثرت بشكل كبير على اقتصادها. اليوم، وبعد سنوات من الصراع والمعاناة، يبرز سؤال مهم: هل بدأت العراق تتعافى اقتصاديًا؟ هذا التقرير يستعرض المعوقات والتحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي، إلى جانب المبادرات والإصلاحات التي قد تساعد في توجيه البلاد نحو مستقبل اقتصادي أفضل.

تاريخ من التحديات

على الرغم من مرور أكثر من عقدين على التغير السياسي في العراق، لم يستقر الاقتصاد العراقي على هوية واضحة ومستقلة، يظل الاقتصاد العراقي مزيجًا غريبًا من اشتراكية الماضي ورأسمالية الحاضر، حيث تتداخل فيه السمات الاقتصادية القديمة مع محاولات التحديث الاقتصادي، هذه التركيبة الاقتصادية الفريدة، إلى جانب التحديات المالية والسياسية والأمنية والإدارية والتشريعية، أعاقت بشدة عملية إصلاح الاقتصاد الوطني.

عبر العقود الماضية، واجه العراق سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي بدأت مع الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، والتي استنزفت موارد البلاد. تلتها حرب تحرير الكويت والحصار الدولي الذي أضعف الاقتصاد العراقي بشكل كبير. هذه الظروف الصعبة أثرت بعمق في الاقتصاد العراقي؛ مما جعل عملية التعافي والنهوض تحديًا مستمرًا.

القطاعات الاقتصادية الرئيسة في العراق

شهدت القطاعات الاقتصادية الرئيسية في العراق طفرة في النتائج خلال الفترة الماضية. وسط جهود حكومية تدفع العراق لتعويض ما فاته وتطوير قدراته في قطاعات مثل الصناعة والزراعة بجانب قطاع النفط والغاز اللذان يعتبران أساس الاقتصاد العراقي.

قطاع النفط والغاز

يُعد قطاع النفط والغاز العمود الفقري للاقتصاد العراقي. حيث يشكل النفط أكثر من 95% من الناتج المحلي الإجمالي. وشهدت العراق نهضة نفطية منذ عام 2003، مع ارتفاع الإنتاج إلى أكثر من 4.22 ملايين برميل يوميًا في عام 2023. وتخطط الحكومة العراقية لزيادة الإنتاج إلى 5 ملايين برميل يوميًا بحلول عام 2025. أما قطاع الغاز، فهو يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي .وتقليل الاعتماد على الغاز المستورد، خاصة من إيران.

القطاع الصناعي والزراعي

كان العراق من الدول الصناعية البارزة في منتصف القرن العشرين. لكن الحروب والصراعات أدت إلى تراجع هذا القطاع بشكل كبير. تحاول الحكومة العراقية الآن إعادة تأهيل المصانع المتوقفة وإنشاء مراكز صناعية جديدة لدعم التنوع الاقتصادي.

شهد القطاع الزراعي تطورات متعددة. لكنه يواجه تحديات كبيرة مثل شحّ المياه وسوء الإدارة، ومع ذلك، حققت العراق اكتفاءً ذاتيًا في إنتاج الحنطة في عام 2024. وتسعى الحكومة لتحسين هذا القطاع الحيوي.

طريق التنمية

في مشروعات النقل، أطلقت الحكومة العراقية الحالية عدة مشاريع استراتيجية تنموية. أبرزها مشروع “طريق التنمية” الذي يهدف إلى إحداث نقلة نوعية في قطاعي النقل والصناعات. يربط هذا المشروع العراق بتركيا وشرق أوروبا عبر خطوط سكك حديدية حديثة وقاطرات نقل تجاري سريعة، ممتدة على مسافة 1200 كيلومتر، بدءًا من ميناء الفاو في الجنوب حتى الحدود العراقية التركية شمالًا. ثم عبر الأراضي التركية باتجاه إسطنبول.

تسعى الحكومة من خلال هذا المشروع إلى جعله همزة وصل للحركة التجارية بين آسيا وأوروبا. بهدف منافسة قناة السويس في الحصص السوقية. يهدف المشروع أيضًا إلى جذب الاستثمارات لإنشاء مشاريع تنموية على طول الممرات البرية، مثل التصنيع والمراكز اللوجستية .وخدمات القيمة المضافة والمخازن، بالإضافة إلى الصناعات التي يفتقر إليها العراق.

رغم الاهتمام الإعلامي الكبير بمشروع “طريق التنمية”. لم ينجح في جذب المستثمرين لتمويله، مما يثير تساؤلات حول جدوى المشروع واستعداد العراق لتنفيذه وتشغيله. أحد الأسباب قد يعود إلى اعتماد حركة النقل التجاري الدولي بشكل كبير على النقل البحري الذي يُعتبر أقل كلفة وأكثر قدرة على نقل كميات هائلة من البضائع مقارنة بالنقل البري. فعلى سبيل المثال تستطيع سفن الشحن نقل أكثر من 20 ألف حاوية نمطية في المتوسط، بينما لا تستطيع القاطرات نقل أكثر من بضع مئات من الحاويات في كل رحلة.

يوفر النقل البحري الدولي عوامل الانسيابية والأمان والموثوقية التي قد لا يستطيع النقل البري توفيرها بشكل مستمر، خصوصًا إذا كانت مسارات النقل تمر بمناطق غير مستقرة أمنيًّا أو سياسيًّا. وقد تأسست منذ عقود سلاسل الإنتاج والإمداد بين مراكز التصنيع في آسيا. ومراكز الاستهلاك في أوروبا على النقل البحري، مما أوجد نموذجًا اقتصاديًّا عالميًّا متكاملًا.

أعلنت الحكومة العراقية عن تكليف شركة إيطالية غير معروفة في قطاع النقل الدولي بدراسة جدوى المشروع. مما يثير تساؤلات حول الدراسة السليمة والكافية لمشروع “طريق التنمية”. نجاح المشروع وتنافسيته واستدامته تحتاج إلى مزيد من الدراسة والمراجعة وأخذ متطلبات منظومة النقل الدولي بالحسبان.

على الرغم من أهمية مشروع “طريق التنمية”، كان ينبغي أن تكون الأولوية للنهوض بالقطاع الصناعي، بالتزامن مع توسع مشاريع النقل التجاري. هذا النهج يضمن استخدامًا اقتصاديًا أمثل لممرات النقل، ما يسهم في وصول المنتجات الوطنية إلى الأسواق المحلية والمنافذ البرية والبحرية للتصدير.

وقع العراق في أبريل 2024 على مذكرة تفاهم مع تركيا وقطر والإمارات للمضي قدمًا في هذا المشروع؛ مما يشير إلى أن التوجه أصبح أكثر واقعية. وينسجم مع متطلبات رفع مستوى التعاون الاقتصادي بين دول الإقليم.

مشروع مترو بغداد

أعلنت الحكومة العراقية عن إطلاق مشروع “مترو بغداد”، وهو مشروع استراتيجي يهدف إلى إنشاء شبكة نقل عام شاملة تغطي 84% من مساحة العاصمة بغداد. ويمتد على مسافة 148 كيلومترًا من خطوط النقل المرتبطة بـ64 محطة.

يمثل هذا المشروع نموذجًا عصريًّا للنقل داخل العاصمة بغداد. ويهدف إلى حل مشكلة الازدحام المروري المزمنة التي تؤثر سلبًا على الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في المدينة. تُقدر التكلفة التقديرية للمشروع بحوالي 17 مليار دولار أميركي. ويتوقع أن يعود بالنفع على البلاد على المدى الطويل.

مشروع مترو بغداد ليس جديدًا تمامًا، إذ طُرح للدراسة لأول مرة في أواخر السبعينيات. وعاد ليحظى بالاهتمام مرة أخرى بعد عام 2004. تعثرت المحاولات السابقة بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية والسياسية المعقدة للعراق.

الآن، تبدو الظروف مواتية للحكومة العراقية الحالية لتحقيق ما لم تستطع الحكومات السابقة إنجازه، والشروع بشكل فعال في تنفيذ المشروع. يمكن أن يكون مشروع مترو بغداد مفتاحًا لحل أزمة النقل الداخلي وتخفيف الاختناقات المرورية في قلب العاصمة بغداد.

تحسين الإدارة وتنويع الاقتصاد

يتطلب تحصين الاقتصاد العراقي تبني إصلاحات هيكلية شاملة والاستفادة الفعالة من الموارد المتاحة، يجب على الحكومة العمل على مكافحة الفساد. تحسين الإدارة، وتنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد الشديد على النفط. تحقيق هذه الأهداف يتطلب تضافر الجهود وتطبيق سياسات اقتصادية مستدامة، لضمان مستقبل أفضل للعراق وشعبه.

يبقى العراق دولة ذات إمكانيات اقتصادية هائلة. لكنها تتطلب استراتيجيات وإصلاحات جذرية للتعافى من أزمات الماضي وبناء اقتصاد مستدام. الخطوات الإصلاحية الحالية تمنح الأمل في مستقبل اقتصادي أكثر استقرارًا ونموًا، إذا ما تم تنفيذها بفعالية وشفافية.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى