الأزمة الأوكرانية والأمن الأوروبي

خالد رستم


تحاول روسيا الاتحادية بتحركاتها السياسية والعسكرية استعادة مكانتها في النظام الدولي.

وذلك من خلال قيامها بضم جزيرة القرم إلى أراضيها، موحية للعالم بأن عمليتها هذه تعد بمثابة خطوة أساسية لاستعادة بناء الاتحاد السوفييتي سابقاً وحفاظاً على مصالحها الاستراتيجية والأمنية معاً في بقاع شتى من العالم.

وباتت شبه جزيرة القرم منطقة معزولة عن العالم، إلا أن روسيا استغلتها كأرض خصبة لنشر ترسانتها العسكرية، وهذا بدوره سيكون تهديداً مباشراً لدول الاتحاد الأوروبي، وقبل كل شيء لأوكرانيا.

فالقرم شبه جزيرة تقع في جنوب أوكرانيا، وهي جزء من هذا البلد يتمتع بحكم ذاتي، ولمئات السنين ظلت روسيا مهتمة بالقرم، ممرها إلى البحر الأسود، ومع أن روسيا رغبت في ضم القرم إليها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، فإنها بقيت أوكرانية، توجد فيها ثلاث إثنيات، أوكرانيون في الشمال وروس في الجنوب وتتار في الوسط، وهناك قاعدة للبحرية الروسية في القرم، ويمكن لهذه القوات البحرية أن تصل إلى البحر الأبيض المتوسط.

والقرم برمتها تحت السيطرة الكاملة للقوات الروسية.

وتنطلق روسيا محاولة فرض سيطرتها على أوكرانيا وتصعيد التوترات مع كييف مستغلة الأقليات الأوكرانية ذات الأصل الروسي بغية تحقيق أهدافها بشكل كامل على الأراضي الأوكرانية، بإرسال مزيد من القوات الروسية، متجاوزة واقع العقوبات المفروضة عليها باتباع طرق عدة، أولها إقامة تحالفات مضادة تؤرق الدول الأوروبية والولايات المتحدة.

فأوكرانيا بلد متعدد الإثنيات والأعراق والأديان واللغات، وهو منقسم بين شرق يتكلم سكانه الروسية ويرون في روسيا بلدهم الأم، ويانوكوفيتش القيادي السابق واحد من هؤلاء، وبين غرب يتكلم اللغة الأوكرانية ويدعو إلى الانضمام لأوروبا، والانقسام إذاً سياسي ثقافي اقتصادي ويجد عمقه في أزمة الهوية التي يعيشها البلد الذي نال استقلاله في عام 1991 بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

بالمقابل ترى أوكرانيا ضرورة استعادة سيطرتها على الحدود مع روسيا.

وفي عام 2014م أعلن الانفصاليون الموالون لروسيا الاستقلال في منطقتي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانية، وتعد عملية النورماندي عام 1944 بين ألمانيا النازية وقوات الحلفاء جزءا من صراع كبير في القارة الأوروبية بإنزال قوات الحلفاء على شواطئ نورماندي شمال فرنسا.

كل ما تستطيع الولايات المتحدة فعله في صيغة النورماندي هو محاصرة قرارات الرباعية واتفاقيات مينسك حتى الآن، ومن المرجح أن تبطئ الولايات المتحدة حل المشكلة على اعتبار إحجام ألمانيا عن قبول توسيع صيغة النورماندي بإضافة الولايات المتحدة، تحسباً من أن يحولها ذلك إلى منصة للمبارزة بين روسيا والولايات المتحدة، ما يؤدي في الوقت نفسه إلى تراجع ألمانيا وفرنسا إلى الخلف.

ويتوقع “بايدن” أن تؤدي مشاركة واشنطن في المفاوضات إلى زيادة الضغط على موسكو، وحينها سوف توافق الأخيرة على حل النزاع سلمياً.

وبالنسبة لموقف روسيا من مسألة تغيير قائمة المشاركين في صيغة نورماندي، يمكن العودة إلى يوليو/تموز 2019م حين أعلن نائب وزير خارجية روسيا آنذاك، جريجوري كاراسين، أن موسكو لم تعترض على مبادرة توسيع مجموعة النورماندي بإضافة الولايات المتحدة إليها، وينبغي موافقة فرنسا وألمانيا على ذلك، لكن لا تتوافر مثل هذه الثقة.

واعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية على الإضرار بالمصالح الروسية بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال حلفائها، عبر تقديم عروض اقتصادية وأمنية للدول المجاورة لروسيا، وتهدف تلك العروض إلى منع هذه الدول من الوقوف إلى الجانب الروسي, كما اتخذت الإدارة الأمريكية وسائل أخرى بغية دعم أوكرانيا بفرض عقوبات على روسيا, مقابل اتباع النهج التفاوضي وحلول سلمية مع روسيا.

وترغب واشنطن في السيطرة على أوراق اللعبة كافة في الأزمة الأوكرانية، حيث تحالفت مع معظم الدول المجاورة لروسيا.

وهناك مخاوف أمنية أوروبية من نشوب حرب ليس من مصلحة أوروبا المشاركة فيها، بدليل أن المساعي الألمانية الفرنسية تتجه اليوم لإنشاء جيش أوروبي، وقد يكون هذا الجيش بديلاً عن حلف الناتو، وينظر القادة الأوروبيون إلى روسيا كقطب يهدد القارة من جهة الشرق، وفي هذه الحالة إنشاء جيش أوروبي سيكون مبرراً.

وفي ختام قمة الإليزيه في السابع من ديسمبر/كانون الأول، عبر الهاتف، ناقش قادة فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا التوترات الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، وعبّر الزعماء الغربيون الخمسة عن تصميمهم على أن سيادة أوكرانيا يجب أن تُحترم، وأنهم ملتزمون بالعمل حفاظ السلم والأمن في أوروبا، ما يقتضي ضرورة أن تنخرط روسيا مجدداً في المفاوضات مع أوكرانيا، في إطار مجموعة النورماندي برعاية فرنسا وألمانيا.

والولايات المتحدة مستعدة لفرض عقوبات اقتصادية وزيادة انتشارها العسكري في أوروبا الشرقية إذا ما شنّت روسيا هجوماً على أوكرانيا، مستبعدةً في الوقت عينه ردّاً عسكرياً أمريكياً مباشراً، وإذا ما تعرّضت أوكرانيا لغزو روسي فإن الولايات المتّحدة تفضل العمل على مجموعة تضم عناصر عدّة تشمل دعم الجيش الأوكراني وفرض عقوبات اقتصادية قوية على روسيا وزيادة كبيرة في دعم حلفائها في حلف شمال الأطلسي بهدف تحسين قدراتهم.

والاتحاد الأوروبي لا يبدو قادراً على اتخاذ موقف موحد حيال ما يجري، فالحل الأمثل لحل القضية هو التوسط الفرنسي الألماني، برغم وجود صعوبات في إقناع السلطات الأوكرانية كي تغير وجهة نظرها.

وروسيا تريد ضمانات في المقابل، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد وضع الضمانات الأمنية المتبادلة، وكان بوتين قد دعا حلف الناتو مؤخراً إلى إنهاء توسعه ناحية الشرق، وطلب الحصول على ضمانات خطية منه، وقال إن روسيا “ستكون مستعدة أيضاً لإعطاء التحالف ضمانات أمنية خاصة بها”.

أوكرانيا هي الدولة التي تصنع صورة روسيا كقوة عظمى أو هي التي تكسر هذه الصورة، وروسيا دون أوكرانيا هي مجرد بلد، بينما روسيا مع أوكرانيا إمبراطورية.. والمعطيات الجديدة في أوكرانيا، “البلد الشقيق لروسيا” حسب تعبير لفلاديمير بوتين، تنهي حلم الرئيس الروسي بتشكيل اتحاد اقتصادي للدول التي كانت في بوتقة الاتحاد السوفييتي السابق، لمنافسة ليس فقط الاتحاد الأوروبي، بل والولايات المتحدة.

المشروع الأوكراني يعتبر من الأهداف الرئيسية للرئيس بوتين خلال سنوات حكمه، وقد يتجرد مشروعه عموما من معناه في غياب أوكرانيا -46 مليون نسمة وتملك قدرات زراعية وصناعية كبيرة- والمؤشرات تدل على أن الأزمة ذاهبة إلى مزيد من التصعيد.

الحلول تبدو أكثر تعقيداً، خاصة أن العالم برمته الآن موجود في الملعب الأوكراني، ولا أحد يمكنه أن يدعي استحواذ الفوز، وليس من مصلحة الأطراف المتصارعة تأجيج النزاعات التي تؤدي إلى مزيد من الانقسامات, والحل لتلك الأزمة يتمثل في الطرق الدبلوماسية بين الأطراف الداخلة في الأزمة كافة.

Exit mobile version