ألمانيا الخضر.. ليست خضراء فعلا

علي الصراف


الأيديولوجيا، أيا كانت، غالبا ما تكون مصدر عمى متعمد عن الحقائق. ولقد دفعت شعوب عدة في العالم ثمنا باهظا لها.

لقد أغلقت ألمانيا ثلاث محطات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، انطلاقا من “موقف” أيديولوجي لا يأبه بالحقائق، بينما تعاني أجزاء عدة من أوروبا من نقص في الكهرباء، وبينما الاعتماد على الغاز الروسي ما يزال مصدرا للسجال في شأن ما قد يعنيه من مخاطر جيوسياسية، وبينما تؤكد كل الحقائق الأخرى أن الطاقة النووية هي واحدة من أكثر مصادر الطاقة النظيفة وأكثرها فعالية.

وقد لا تكفي “الخضر” في ألمانيا شهادة المنظمة الدولية للطاقة الذرية، ولا “البطاقة الخضراء” التي يزمع الاتحاد الأوروبي إصدارها للاستثمارات في الطاقة النووية، فالحقيقة هي أن هناك أكثر من 450 مفاعلا نوويا في العالم تعمل بكفاءة وأمان، لتنتج من الطاقة ما كان من المستحيل تعويضه إلا بأشد الأضرار البيئية.

المحطات التي أعلنت ألمانيا إغلاقها في بروكدورف “شمال” وغرونده “وسط” وغوندريمينغن “جنوب” كانت تزود البلاد بـ11% من احتياجاتها من الكهرباء.

وبحلول نهاية العام الجاري، فمن المنتظر أن يتم إغلاق المحطات النووية الثلاث الأخيرة في نيكارفيستهايم “جنوب” وإيزار 2 “جنوب” وإمسلاند “شمال”.

لن تعجز ألمانيا، بطبيعة الحال، عن تسديد النقص باستخدام محطات توليد تعتمد على الغاز، وتوربينات الرياح. إلا أن الكلفة ستكون باهظة على مستويين على الأقل: ارتفاع الأسعار، وارتفاع الاعتماد على مصادر خارجية.

والمسألة لا تتعلق بتكاليف ولا بكفاءة البدائل، ولكنها تتعلق بـ”الموقف” الأيديولوجي من الطاقة النووية.

لا يمكن للمرء أن ينكر أثر كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل في أوكرانيا في أبريل من عام 1986، ولا كارثة انفجار مفاعل فوكوشيما في اليابان في مارس 2011، في صياغة موقف ألماني متشدد من الطاقة النووية. ولكن حتى الأضرار التي نجمت عن هاتين الكارثتين، كانت أقل بمئات المرات على أوكرانيا، التي ما تزال تعتمد على 15 مفاعلا نوويا، وعلى اليابان التي ما تزال تعتمد على 33 مفاعلا نوويا، لو أنهما قررتا التخلي عن الطاقة النووية.

المخاطر لا يمكن الاستهانة بها. إلا أن مفاعلات إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية، بما فيها القديمة منها، محاطة بمستويات عالية من إجراءات الأمان والرقابة الدورية، وسط سلسلة من احتياطات الطوارئ التي قد تنجم عن الكوارث الطبيعية. وفي المقابل فإن المنافع تكاد لا تقارن لفرط ضخامتها. فكل كيلوجرام من الوقود النووي ينتج من الطاقة ما يعادل 166 طنا من الفحم، و20 ألف غالون من النفط، و2.8 مليون قدم مكعب من الغاز. وهناك اليوم أكثر من 150 سفينة وغواصة تعمل بالطاقة النووية. وعلى سبيل المثال، تقول مؤسسة “روس أتوم” إن سفينة تكسير الجليد الروسية العملاقة المزودة بمفاعلين نوويين، تسير لمائة يوم، ولا تستهلك سوى 15 كيلوجراما من اليورانيوم، في مقابل سفينة عادية تحتاج إلى 30 ألف طن من وقود الديزل في المدة نفسها.

ثلاثة أرباع الطاقة الكهربائية في فرنسا يتم إنتاجه من 58 مفاعلا نوويا. ولولا المفاعلات الـ98 في الولايات المتحدة، والـ48 في الصين، والـ33 في روسيا والـ24 في كوريا الجنوبية، والـ22 في الهند، والـ19 في كندا، والـ15 في بريطانيا، والـ25 مفاعلا في إسبانيا والسويد وبلجيكا وسلوفاكيا، فإن الاعتماد على مصادر الطاقة الأخرى، كان سيرفع تكاليفها إلى معدلات لا يمكن حتى تخيل أثرها على الاقتصاد.

دول العالم التي تستعين بالطاقة النووية، أكثر اخضرارا من ألمانيا. هذه حقيقية يمكن بسهولة معرفة ما تعنيه من أرقام. إلا أن حزب “الخضر” في ألمانيا، بما صار له من نفوذ، يدفع البلاد إلى اتخاذ “موقف” لا علاقة له بالحقائق العلمية، ولا بالوقائع القائمة، ولا بما تؤكده الأرقام.

إنه “موقف” عدائي يشبه أي موقف عدائي آخر قائم على “قناعات” مسبقة.

لا أحد يقول إن الحقائق لا تتغير. بالعكس تماما. العالم المتحرك ينتج حقائق جديدة كل يوم تتطلب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لكي تعيد الدول والمجتمعات قراءة معادلاتها، وتتفحص موطئ قدمها باستمرار. هذا هو واجب النخبة الأهم.

والأخضر الحقيقي، هو الأخضر بأرقام، وليس الأخضر بالمواقف المسبقة. وحيث إن المناخ قضية تخص الكرة الأرضية، لا بلدا بمفرده، فقد كان يحسُن بـ”الموقف” الألماني أن يحسب أرقامه ويقرر بدائله، على أساس ما تعنيه لكوكب الأرض.

Exit mobile version