أزمة الغذاء.. بين خسائر مؤكدة ومصالح متضاربة

د. طارق فهمي


لا تزال الحرب الروسية-الأوكرانية تشهد تطورات عسكرية واقتصادية واستراتيجية تتعلق بما يجري في المواجهة المفتوحة بين الجانبين.

روسيا تسعى لتحقيق أهدافها العسكرية والسياسية في مواجهة التوجهات التي تخطط لها الولايات المتحدة ودول حلف الناتو.. وهو ما يشير إلى أن المشهد لا يزال مفتوحا على سيناريوهات عدة قد تمتد لفصل الشتاء، وإن كانت بعض التباينات في المواقف الغربية الروسية من جانب، والأمريكية الروسية من جانب آخر بدأت تتلاقى في مساحة جديدة من التوافقات -ولو شكلية- بعد أن ثبت أن الحرب الثنائية ومتعددة الأطراف، والتي تشمل أطرافًا عدة، قد تتسبب في كوارث إنسانية عالمية، وأنه -دون تبني مواقف محددة- فإن تداعيات ما سيجري سيكون مكلفا، ليس على مستوى دول المواجهة، وإنما لباقي الدول الأخرى.. والتي دخلت على خط التأثير، ليس فقط في أزمة الغاز أو النفط، وإنما أيضا في مجال الغذاء.

وهذا المجال بالطبع يهم عشرات الدول، خاصة النامية، في ظل غياب البديل الجاهز، حيث تحتاج العديد من دول العالم إلى تعاقدات جديدة، واتفاقيات مختلفة في ظل الارتدادات الراهنة والمنتظرة لما يجري في مسارات الحرب الروسية-الأوكرانية، وفي ظل استمرار الاتهامات بين واشنطن وموسكو حول حصول الأخيرة على الحبوب من أوكرانيا لبيعها.

ومن ثم فإن روسيا -وفقا للتصور الغربي- تبدو “المسؤولة عن أزمة الغذاء”، الأمر الذي يتطلب دعما للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، للحصول على اتفاقية شاملة تسمح بتصدير الحبوب من أوكرانيا، وبهدف ضمان وصول المواد الغذائية والأسمدة الروسية إلى الأسواق الإقليمية والعالمية دون قيود.

وذلك بعد أن وصلت مستويات “الجوع” العالمية إلى مستوى مرتفع جديد، حيث تضاعف عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد في غضون عامين فقط من 135 مليونا قبل جائحة “كوفيد-19” إلى 276 مليونا في الوقت الراهن، وهو ما ينذر بخطر وشيك.

يشار إلى أن أوكرانيا لا تزال ملتزمة بالتصدير إلى الخارج وفق نظام التعاقدات الدولية المبرمة، والتي تقرها اتفاقيات اقتصادية شارعة، وهو ما أكده المندوب الأوكراني لدى الأمم المتحدة سيرغي كيس ليتسيا، لمجلس الأمن مؤخرا، بأن بلاده لا تزال ملتزمة بإيجاد حلول لمنع أزمة الغذاء العالمية، ومستعدة لتهيئة الظروف الضرورية لاستئناف الصادرات بصورتها المعتادة، واستُكمل هذا بتحرك الوسيط التركي لإتمام اتفاق بفتح ممر تجاري آمن لنقل الحبوب والمنتجات الزراعية من روسيا وأوكرانيا عبر مواني البحر الأسود.. لكن أوكرانيا لا تزال لديها شكوك بشأن الاتفاقية المقترحة.

وكان وزير الزراعة التركي، وحيد كيريشتشي، قد أعلن أن تركيا تعتزم شراء الحبوب من أوكرانيا بخصم يزيد على 25%، وأن أنقرة تبذل جهودًا دبلوماسية نشطة لإلغاء حظر صادرات الحبوب من المواني الأوكرانية. وقد استضافت تركيا اجتماعين مؤخرا مخصصين لتوريد الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق العالمية، عُقد أحدهما في إسطنبول بمشاركة ممثلين عن روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة، والآخر استهدف إنشاء مركز مراقبة لنقل الحبوب الأوكرانية عن طريق البحر، والواضح من محصلة الاجتماعين التخطيط لإنشاء ما يسمى “مركز حبوب” في إسطنبول، عبر إنشاء الآلية المنضبطة بين الأمم المتحدة وروسيا وأوكرانيا، اللتين تمثّلان ثلث الإنتاج العالمي من الحبوب، بالإضافة إلى تركيا، الأمر الذي سيتطلب فتح ممر آمن لنقل الحبوب والمنتجات إلى الخارج.

يبقى التخوف من أن إزالة الألغام الموجودة في مواني أوكرانيا على البحر الأسود عملية قد تستغرق ما يصل إلى شهرين أو 3 أشهر، مع ضرورة مشاركة القوات البحرية التركية والرومانية معًا لضمان تنفيذ المهمة وعدم الدخول في مسارات سلبية جديدة مع التوقع بترحيل بعض المشكلات إلى قمتي مجموعة السبع وحلف الناتو نهاية الشهر الجاري، حيث من المرجح أن تتصدر الحرب الروسية-الأوكرانية، التي دخلت شهرها الرابع، جدول الأعمال، إلى جانب تداعياتها على الأمن الغذائي وأزمة الطاقة.. وكذلك دعم مجموعة الدول السبع لأوكرانيا ديمقراطية وذات سيادة، والمرونة الاقتصادية العالمية، ومعالجة أزمة المناخ، والبنية التحتية للتنمية، والأمن الصحي العالمي، حيث المتوقع أن تركز قمة مجموعة السبع على التداعيات الاقتصادية والمالية لقرار الاتحاد الأوروبي حظر النفط الروسي تدريجيا، فضلا عن الاضطرابات في سلاسل الإمداد.

ستظل أزمة نقل الحبوب قائمة، وستسخدم كسلاح مهم في إطار ما يجري سياسيا وعسكريا واستراتيجيا، وهو ما تدرك تبعاته الأمم المتحدة والدول النامية، في ظل دور غير مباشر للأطراف الكبرى، ومنها الولايات المتحدة وأوروبا عالميا، وتركيا إقليميا، وفي ظل أفكار ورؤى مطروحة لم تحسم بعد نتائجها، وإن كانت قابلة للتفاعل والتنفيذ، إن توافقت الإرادات لدى الجانبين الروسي والأوكراني في المقام الأول، مع مراعاة مصالح بعض الدول الإقليمية التي تسعى لتحقيق مكاسبها الاقتصادية مما يجري.

Exit mobile version