في قطر تلتقي المتناقضات ويجتمع النقيضان في كينونة واحدة، يعانق الملاك الشيطان في قلب رجل واحد، يختبئ اللص والصعلوك في ثوب الأمير، ويتلقب المغامر والمقامر بألقاب الحاكم والوزير، ويستحيل على بسطاء الناس التمييز بين القائد والمُقاد، أو بين الحرامي والغفير، أو بين اللص السارق والحارس الأمين. يخرج علينا رجل الدولة صاحب المناصب الرفيعة ويتكلم بلغة المغامر المقامر، أو بلغة الوحشي الجلف، ويخلط بين وظيفة السياسي ووظيفة الصياد، تذوب على لسانه الفوارق بين الإنسان والحيوان، ولا تعرف ماذا يقصد بكلامه وتشبيهاته، وهل هذه لغة سياسية جديدة؟ وفي أي عالم نعيش.. هل نحن في مجتمعات إنسانية راقية متحضرة أم في مجتمعات بدائية متوحشة مشغولة مهمومة بالصيد والطرائد ولا ترى الكون إلا صائدا و”صيدة”؟ حالة من العبثية تجعل الحليم حيران، والعاقل يوشك أن يرتدي قميص الجنون، في أي عصر وفي أي كون نعيش نحن العرب؟ كان حوار الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها السابق، مع التلفزيون الرسمي لدولته لحظة كاشفة لمدى قبح الواقع العربي الذي نعيشه اليوم، حوار صريح إلى أبعد مدى من حيث الموضوعات التي كان معداً نفسه ليتكلم فيها دون حاجة إلى سؤال ممن كان من المفترض أن يحاوره، كان حواراً كاشفاً لطبيعة رجل الدولة الذي يضع نفسه في موقع أعلى من الآخرين، ويعطي نفسه الحق أن يفكر لهم، ويختار لهم، ويقرر لشعوبهم من يحكمهم، وكيف يحكمهم، لقد كان الشيخ حمد بن جاسم الصانع الحقيقي لسياسة دولته ومواقفها من الدول العربية الأخرى، وكان يعامل حكام باقي الدول العربية على أنهم تلاميذ في مدرسته، ويتعامل مع الشعوب العربية باعتبارهم من الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم، وأنهم تحت وصاية سموه ورعاية دولته، جاء حديث الشيخ حمد بن جاسم ليقدم للعالم فضيحة من العيار الثقيل.. رجل دولة يعترف صراحة بأنه تدخل في شؤون العديد من الدول، ثم بعد ذلك يقدم تبريرات ومسوغات ساذجة لا يقبل بها عقل طفل. كان أخطر ما جاء في حديث الشيخ حمد بن جاسم ما قاله عن سوريا، وكيف أن قطر بالتعاون مع تركيا كانت تمول وتسلح التنظيمات المسلحة التي دمرت بلدها، وارتكبت من الفظائع ما لا يمكن تبريره تحت أي حجة ثورية أو دينية، وما لا يبرره طغيان الرئيس السوري ونخبته وإدارته، ولا فسادهم ولا قهرهم، لأن الإجرام لا يمكن تبريره بإجرام سابق، وتدمير حياة الإنسان لا يمكن تبريره بأن النظام السوري يفعل ما هو أشد وأنكى، لأن القيم لا يمكن معها تطبيق نظام المعاملة بالمثل خصوصاً إذا كانت من منطلق ديني. لقد اعترفت حكومة قطر على لسان رئيس وزرائها السابق أنها تدخلت لتغيير نظام الحكم في سوريا، وقدمت التمويل لكل شذاذ الآفاق، ولكل العصابات الإجرامية من كل العالم لتدمير بلد عربي كبير، في حقيقته يمثل أول حضارة العرب وأول دولهم ورمز مجدهم بغض النظر عن الجالس في قصر الحكم فيه. قطر وتركيا دمرتا سوريا.. حقيقة يعترف بها الشيخ حمد بن جاسم، ولكن ليس هذا هو بيت القصيد، ما هي سوريا في نظر الشيخ حمد؟ هل هي دولة عربية شقيقة؟ هل هي دولة أصلا؟ هل فيها بشر؟ هل يوجد فيها إنسان واحد يستحق أن يعامل كإنسان؟ هل تدخلت قطر لإنقاذ شعب وتحقيق حلم ثورة أم لرفع الظلم عن الإنسان؟ يقول الشيخ حمد بن جاسم إن كل ذلك لا وجود له، إن سوريا في عقل وفكر الشيخ حمد بن جاسم هي “صيدة”، يعني سموه خارج للصيد في البراري، ورأى أرنباً برياً أو غزالة أو أي حيوان يريد أن يحصل عليه فأراد أن يصطاده، هذه هي سوريا. بعبارة.. الشيخ حمد بن جاسم وهو يصف رؤية بلاده تجاه سوريا بقوله “احنا تهاوشنا على الصيدة، وفلتت الصيدة واحنا قاعدين نتهاوش عليها”، سوريا بكل تاريخها وعظمة شعبها.. بكل حضارتها من زنوبيا.. أول ملكة في تاريخ العرب الأنباط إلى حضارة الرومان ثم الأمويين والأيوبيين ..إلخ، كل ذلك التاريخ العظيم والحضارة الرائعة والإنسان الأروع.. كل ذلك عند هذا الصياد هو “صيدة” كان يتمنى الحصول عليها، وبعد أن ربطها في حبله “تهاوش” أو “تعارك” مع زميله في الصيد “فلتت” أي هربت الصيدة، سوريا صيدة فلتت من شباك الشيخ حمد بن جاسم أو من شباك قطر. كان الشيخ حمد وقناته الإخبارية “الجزيرة” يسمونها سوريا الثورة، وفلت لسانه أو نطق بالحقيقة تحت ضغط الحالة النفسية المتوترة التي كان فيها، وخانته اللغة الدبلوماسية فأعطاها اسمها الصحيح وهو “صيدة”، وهنا يحق لمن أراد أن يفهم الواقع أن يتساءل.. هل سوريا ثورة أم “صيدة”؟ ومن ثم هل مصر وتونس وليبيا واليمن ثورات أم “صيدٌ” في شباك الشيخ حمد بن جاسم؟ أظن أن الجميع كان صيدا في الشباك بعضه مغيباً مخدراً، والبعض مستمتعاً بأقفاص الصيد في حدائق حيوانات قطر وتركيا. وها هي جميع التنظيمات التي مولتها قطر وسلّحتها تركيا محشورة في شباك الصياد الروسي ومعها أردوغان وتابعه تميم، الجميع يفاوض، ويستنجد ويستغيث ليحافظ على وجوده أو على حدوده، والحقيقة الوحيدة الباقية أن الصيدة “التي هي سوريا” فلتت من حمد لأنه مشغول بـ”التهاوش” مع أعمامه وأخواله.