هل تآمر أردوغان على شعبه لصالح “مشروع الإخوان”؟
لا يمكن فهم السياسة الخارجية المضطربة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وانعكاساتها السلبية على الصعيدين؛ الداخلي الخارجي، وتأثر بلاده الملحوظ بها، بمعزل عن الوثائق التاريخية والطموحات الممتدة منذ أعوام، لصياغة المشروع التركي في الشرق الأوسط وفق محددات بعضها معلن منذ زمن، بينما تكشف البعض الآخر منها بفعل الأزمات المتعاقبة على المنطقة والتي شارك النظام التركي الحالي في صناعتها وتأجيجها بشكل مباشر، منذ مطلع العام 2011.
البداية كانت في العام 2011؛ فبينما كانت الأحداث في المنطقة العربية تقترب من فوهة البركان، بدأ الرئيس التركي بتغيير بوصلته نحو الشرق الأوسط، حيث تخلى عن سياسة الوفاق وتصفير المشكلات والتعاون المتبادل مع الدول العربية، التي انتهجها حزبه، حزب العدالة والتنمية، منذ أن صعد للحكم وتكفل بها مستشاره الأول أحمد داوود أوغلو، وكشف عنها كاملة في كتابه الصادر العام 2001 ويحمل اسم “العمق الاستراتيجي”.
أردوغان كشف للمرة الأولى عن حقيقة مخططه الهادف للتوسع في المنطقة وفرض النفوذ بالاعتماد على تعقيد الأزمات ثم توسيع التواجد العسكري، بعدما أعلن عن رؤية 2023، التي تضع حدوداً جديدة تماماً للدولة العثمانية قائمة على التوسع واستعادة الحدود الجغرافية ما قبل العام 1918.
كانت البلدان العربية منشغلة بأحداث داخلية صعبة، حين أرسلت تركيا قوات للعراق تمددت بعمق 250 كم في الشمال “بعشيقة”، وكذلك أرسلت المئات ثم الآلاف من الجنود إلى شرق سوريا، ثم ليبيا، فضلًا عن احتلال شمال جزيرة قبرص بنحو 40 ألف جندي، وبعد ذلك توالى التدخل التركي العسكري في بقاع مختلفة.
دوافع التمدد في المحيط العربي
الباحث المصري المتخصص في الشأن التركي، الدكتور كرم سعيد، يرى أنّ دوافع التمدد التركي في منطقة الشرق الأوسط اعتمدت خلال الفترة الماضية على محورين رئيسيين؛ “الأول يرتبط بالهوس لدى رجب طيب أردوغان ونظامه حول استعادة الإرث العثماني والإمبراطورية العثمانية ذات الحدود الجغرافية الممتدة، وهو ما ظهر جلياً في تصريحات أردوغان، التي أكد فيها أنّ الحدود “العاطفية” للدولة تختلف تماماً عن الحدود الجغرافية وهي ممتدة لتشمل القرم وشمال شرق سوريا وحلب والموصل”.
أما المحور الثاني، وفقاً لسعيد في حديثه لـ “حفريات”، فهو مرتبط بالأطماع الاقتصادية في ثروات دول الجوار، ومحاولة السيطرة على مكامن النفط وهو ما ظهرت دلالته بشكل كبير في منطقة شرق المتوسط، حيث تسعى تركيا بالاحتكاك المباشر مع دول الجوار لفرض سيطرتها على المنطقة، واستغلال مواردها بالتحدي لكل القوانين والأعراف الدولية.
وفي مقال بعنوان “أردوغان والزعامة الإقليمية” نشرته صحيفة الشرق الأوسط، نهاية أيلول (ديسمبر) الماضي، أورد الكاتب والمفكر السياسي، عبد الرحمن الراشد، عدة دوافع لمحاولة التمدد التركي في المنطقة العربية، أبرزها، الدافع الشخصي لدى أردوغان رغبةً في أن يجعل من نفسه زعيماً إقليمياً، وبلاده قوة محورية.
ويقول الكاتب: “خلال فترة رئاسة أردوغان صار لتركيا مشروع أن تكون أكبر قوة إقليمية، إلا أنّ الإخفاقات أكثر من الانتصارات، وأكبر انتكاساتها سقوط حكم “الإخوان” في مصر الذي دام عاماً واحداً فقط، وهو ما يزال يحاول استعادة مصر، حيث يستضيف قياداتهم في إسطنبول”.
ويضيف: “آخر إخفاقات تركيا كانت في السودان، بسقوط حليفها عمر البشير، ومعه أيضاً سقطت جماعة “الإخوان” الحاكمة لثلاثة عقود، النظام الجديد، الذي جاء به الشارع السوداني، أنهى اتفاقية التعاون العسكري مع تركيا، وألغى عقد تأجير جزيرة سواكن التي خطط الأتراك لتكون قاعدة عسكرية لهم، لفرض وجودهم قبالة الشواطئ السعودية، وبالقرب من مصر”.
ويشير الكاتب إلى تعقيد الأوضاع في سوريا بسبب إصرار أردوغان على توطين أكثر من مليون لاجئ سوري في مناطق محاطة بالأكراد وتمثل خطورة أمنية.
“الميثاق الملي”.. استدعاء القوميات الزائفة
لا يمكن فهم التحركات العسكرية متعددة الأهداف جغرافياً للرئيس التركي بمعزل عن الوثائق التاريخية التي تحدد بشكل كبير أحلام التوسع وآليات التحرك لتحقيقها، أبرز تلك الوثائق ما يُعرف باسم “الميثاق الملي”.
استدعى أردوغان أوراق “الميثاق الملي” الذي يحدد خريطة التوسعات في الشرق الأوسط للمرة الأولى العام 2016، وبالتحديد عندما استبعدت بلاده من حملة عسكرية قادتها الولايات المتحدة لتطهير الموصل، وقال:”في الموصل التاريخ يكذب علينا.. وإذا رغب السادة الأفاضل (يقصد الحكومة العراقية) في التحقق من ذلك فعليهم بقراءة الميثاق الملي ليفهموا معنى الموصل بالنسبة لنا”، وفق ما نشرته عدة صحف في ذلك التوقيت.
ويعود تاريخ الوثيقة التي تمثل المرجع الشرعي لتوسعات أردوغان إلى العام 1920، حيث أقرها البرلمان التركي في عهد مصطفى كمال أتاتورك، واعتمدت على ستة بنود، أهمها البند الأول، القائل إنّ مستقبل المناطق المحتلة ذات الأغلبية العربية في زمن توقيع اتفاقية “مودروس” سوف يحدد عن طريق استفتاء، أما المناطق التي لم تتعرض للاحتلال وقت توقيع الهدنة وتسكنها غالبية تركية مسلمة فهي تعتبر وطناً للأمة التركية.
وتقول صحيفة “تركيا الآن” في تحليل نشرته منتصف شباط (فبراير) الماضي إنّ “الميثاق الملي” اعترف بخسارة الأتراك للولايات العربية، ولكنه استثنى إقليم كردستان بالكامل، إضافة إلى شمال سوريا (وعاصمته حلب)، وشمال العراق (وعاصمته الموصل)، حيث اعتبر الميثاق تلك المناطق جزءاً من الدولة التركية الجديدة، باعتبار أنّ أغلبية سكانها من الناطقين بالتركية.
ويؤكد التحليل أنّ تلويح أردوغان باستعادة “الميثاق الملي”، يعتبر امتداداً لما قام به أسلافه لتحقيق الهدف نفسه، وليس بدعة جديدة من عنده، والفارق الأساسي بينهما هو أنّ أردوغان كان أول من وسّع من عمليات الاستعادة تلك، بالهجوم العسكري على سائر البقاع المفقودة من خريطة “الميثاق الملي” في وقت واحد.
وبالرغم من أنّ معاهدة “لوزان” الموقَّعة العام 1923، عقب الحرب العالمية الأولى، والمعترف بها دولياً، ترسم حدوداً دقيقة للدولة التركية دون أيّ مساس بدول الجوار، إلا أنّ محاولات الرئيس التركي المدفوعة بطموحات عاطفية، على حد وصفه، تصل أحياناً إلى حدّ السذاجة، لا تتوقف من أجل إعادة النظر في الاتفاقية وتغيير ملامحها بما يخدم طموحه التوسعي في الشرق الأوسط.
وكانت “لوزان” نواة تأسيس الجمهورية التركية الحديثة بالتخلي عن القوميات التابعة لها ومنحها استقلالية كاملة، لكن أردوغان يعتبرها جرحاً عميقاً في تاريخ الدولة العثمانية، يسعى جاهداً لمراجعته والتراجع عنه ولو بفرض القوة ودعم الإرهاب.
رهانات خاسرة
أحد أهم دوافع مشروع أردوغان التوسعي في المنطقة العربية كان تحقيق نفوذ إقليمي لبلاده التي لا تملك نفوذاً دينياً أو مذهبياً على أقليات في المنطقة، كما أنّها لا تتحدث اللغة العربية أحد أهم روافد القومية العربية، لذلك كان الرهان الأبرز هو تقديم مفهوم الإسلام على نمط العروبة.
يقول الباحث المصري المتخصص بشؤون التنظيمات الإرهابية، عمرو فاروق، إنّ سياسة أردوغان الخارجية في الفترة ما بعد العام 2011 اعتمدت بشكل أساسي على دعم التيارات المؤدلجة والتنظيمات المسلحة، كأحد أهم أدوات المشروع التركي في فرض السيطرة بالمنطقة العربية، لذلك ظهر “الجيش الحر في سوريا”، و”الميليشيات المسلحة في ليبيا”، وكذلك الميليشيات المدعومة من حزب الإصلاح الإخواني في اليمن، فضلًا عن استضافة عناصر الإرهاب الهاربين من مصر عقب سقوط جماعة الإخوان من الحكم في حزيران (يونيو) 2013 وتوفير الدعم المادي واللوجيستي لعملياتهم المسلحة.
ويؤكد فاروق لـ “حفريات” أنّ “السياسة التركية ارتدّت في صدر النظام وأفقدته شعبيته داخلياً، وسمحت لمعارضيه بالاستحواذ على شعبيته، لأنّ الشعب التركي يرفض التدخلات العسكرية في الدول كما يرفض دعم الميليشيات التي تقتل الشعوب العربية لصالح مشروع أردوغان، وعلى المستوى الخارجي وقعت تركيا في صراعات حادة مع الاتحاد الأوروبي جعل إمكانية التحاقها به أمراً شبه مستحيل، كما اضطرت للتعاون مع روسيا وإيران ظناً أنّ ذلك سيثبّت أقدامها في سوريا، وهو ما انعكس بالسلب على علاقتها بالولايات المتحدة”.
وتابع فاروق أنّ “أردوغان نفسه بات يمثل رهاناً خاسراً لدى التنظيم الدولي للإخوان بعد انحسار شعبيته وانهيار مشروعه الداخلي وهو ما يؤكد حتمية سقوطه عاجلًا وليس آجلًا”.
دلالات حتمية السقوط
الباحث المصري كرم سعيد، يقول لـ”حفريات” إنّ عواقب السياسات الخارجية، التي وصفها بغير المتزنة، التي يتبعها أردوغان “ستكون وخيمة على الصعيدين، الداخلي والخارجي، خاصة مع ارتفاع أصوات المعارضة التركية الرافضة لسياسات أردوغان والمطالبة دوماً بإعلاء مصالح الشعب، ووقف دعم التيارات المؤدلجة والتنظيمات المسلحة لصالح خدمة مشروع أردوغان التوسعي في الشرق الأوسط، وزيادة حجم التأييد الشعبي لتلك الأصوات، وهو ما انعكس على تراجع شعبية الرئيس التركي، وارتفاع أسهم المعارضة بشكل كبير، وامتدت آثاره على الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها المرشح المعارض إمام أوغلو ببلدية إسطنبول، بعد أن ألحق هزيمة ساحقة بمرشح حزب العدالة والتنمية”.
وعلى المستوى الخارجي يقول الباحث المصري إنّ “تركيا خسرت الكثير بسبب سياسات أردوغان التي شوّهت صورة بلاده وعززت حدة الخلافات في محيطها الإقليمي والدولي، ووصل الخلاف بين تركيا والاتحاد الأوروبي إلى ذروته، كما اشتعلت خلافات غير مسبوقة مع البلدان العربية الرافضة للتدخلات التركية التي لم تتوقف عند تأييد فصيل سياسي ولكنها تجاوزت ذلك بتقديم الدعم اللوجيستي والعسكري للتنظيمات المسلحة التي تعمل لصالح أجندتها”.
ووفق ما أوردت صحيفة “أحوال” التركية في تحليل بعنوان “نهاية أردوغان.. تَلقّي الدرس الصعب ” فإنّ الرئيس التركي قد دخل في صراع يهيمن عليه تضارب المصالح الدولية ويُنذر بالخطر، إذ يحاول جاهداً اللعب على أوتار هذا التضارب من أجل إطالة عمر نظامه. وألقت ميرال أكشينار، زعيمة الحزب الصالح المنتمي ليمين الوسط، كلمة في الآونة الأخيرة حذّرت فيها من أنّ الشتاء قادم. وربما كانت أكشينار تُلمّح إلى خريف أردوغان أو سقوطه.
ويقول الكاتب إن العد التنازلي للانهيار داخل حزب العدالة والتنمية في البرلمان، الذي عفا عليه الزمن بعد استفتاء 16 نيسان (أبريل)، قد بدأ بالفعل، ويُدرك أردوغان ما ينتظره؛ لذا، فقد يسعى لحمل غصن الزيتون والتوجه به لمؤسسي حزب العدالة والتنمية ببرجماتيته المعتادة، لكي يستعيد سيطرته على الحزب من جديد، ولا يمكن التكهن بفرص نجاحه، غير أنّه خلق وضعاً صعباً يجعله في طريق مسدود بلا مخرج في نهاية المطاف.
نقلا عن حفريات