سياسة

موسكو أنقرة طرابلس القاهرة


لا تخفى على أحد المواقف العربية غير المتجانسة فيما يخص بعض الملفات المرتبطة بأمن المنطقة العربية التي تصنف في خانة مهددات الأمن القومي للمنطقة العربية، فالكل يرى ويقدر حجم التهديد والتأثير من منظور يرتبط بمقاييس المصالح الخاصة للأسف الشديد، وهذا ما لا نلمسه في مواقف تكتلات في مناطق أخرى من العالم، أعني أننا لا نلمس انعدام التجانس أو التوافق في معظم المواقف السياسية المتصلة بمهددات الأمن التي تطال أيا من دول تلك التكتلات والاتحاد السوفيتي – سابقا – والاتحاد الأوروبي مثالين على ذلك.

حلف الناتو مثال ثالث، هذا التكتل الذي ابتكرته دول الاتحاد ليكون عابرا لفكرة التكتلات الجغرافية وقائما على فكرة الاستثمار في الأمن، هذه القيمة الكبيرة التي باتت منتجا باهظ الأثمان التي لا يفترض أن تكون عرضة لأي نوع من أنواع المقايضة أو الابتزاز، أو تكون عرضة للتأثر بأمزجة السياسيين وتقديراتهم التي بدورها تتأثر بمؤثرات مختلفة بعضها ما هو أيديولوجي وبعضها قد يكون نتيجة قلة في الخبرة، وهذا ما يحدث من بعض أعضاء التكتل العربية.

والحديث عن الوضع العربي – فيما يخص آلية اتخاذ مواقفه السياسية غير الملزمة – طويل ومتشعب ويحتاج إلى جهد مكثف في سبيل تغيير تلك الآلية على أمل اتخاذ قرار تاريخي بتحويل المنظمة الجامعة للعرب من مجرد منظمة محرومة الصلاحيات والخيارات الملزمة لغيرها ودولها الأعضاء إلى منظمة صاحبة تأثير يحفظ للعرب حقهم في العيش بأمان واستقرار ويدافع عن كرامتهم، بدلا من الحالة الراهنة التي تشجع مغامري السياسة والمقامرين بمصائر وأرواح بني البشر كالعثمانيين الجدد لاقتناص حالة الضعف والترهل الأمني والسياسي، وادعاء الحق في التدخل سياسيا وعسكريا في دول المنطقة بحجة عدم قدرة العرب على إدارة بيتهم والدفاع عنه، وصولا إلى التمادي والإمعان في الاستهتار بالمنطقة وتاريخها كما يفعل أردوغان تحديدا.

وفي حقيقة الأمر فإن ذلك التدخل الأردوغاني في الشأن العربي عبر البوابة الليبية هو تطبيق عملي للمثل الشهير المتداول عربيا “المال السايب بيعلم السرقة”، فأردوغان يعلم علم اليقين أن لا وسيلة أخرى للحصول على ما ليس من حقه إلا بهذه الطريقة المتمثلة في استغلال الثغرات، وكيف لو كانت ثغرة بحجم ليبيا.. طبعا تدخل أردوغان مرارا في سوريا والعراق، وادعى أحقية تركيا بالموصل ومناطق من شمال سوريا وليبيا.

ليبيا التي تتجه إليها أنظار العالم بأكمله في هذه الأيام بسبب تصرفات رئيس مجلسها الرئاسي منقوص الشرعية الذي شكل حكومة كذلك منقوصة الشرعية ويتضح ذلك النقص من اسمها البعيد عن واقع الحال “حكومة الوفاق”، وأين هو ذلك الوفاق، وحين نشير إلى افتقارها للشرعية فذلك لأنها مخالفة لما اتفق عليه أطراف النزاع الليبي في الصخيرات المغربية، ولا تراعي شروط استمرارية الجسم الذي انبثقت عنه الحكومة والذي ترتبط شرعيتها أي الحكومة بسلامة هيكلية المجلس الرئاسي الناجم عن الاتفاق السياسي في الصخيرات والذي ينص على أن يضم المجلس نوابا للرئيس وممثلين عن أقاليم ليبيا وهذا ما لا يتوفر الآن، ما يعني بطلان كل الإجراءات التي تستند عليها الحكومة التي لم تحصل على اعتماد البرلمان أصلا بسبب انهيار اتفاق الصخيرات وهو أمر تتغافل عنه هيئة الأمم التي رعت الاتفاق ولا تزال تحاول يائسة عبر مبعوثها غسان سلامة إتمام مطلوبات شرعيته المحلية والأممية، فكيف تحاول إقناع العالم بأن ذلك الاتفاق لا يزال ساريا على الرغم من تأكيدات بقية أطرافه بانهياره منذ زمن طويل.

وهذا مشهد ضاغط مفاده إبقاء الأمور في حالة مراوحة لأطول فترة ممكنة.. والهدنة الأخيرة التي اضطر الجيش الوطني الليبي للقبول بها مثال على تلك الضغوط، وفي جميع الأحوال فإن موقف الجيش الليبي جيد على الأرض.. وموافقته على الهدنة تجيء من منطلق قوة لا كما طالب بها الطرف الآخر وحلفاؤه.

الجديد في الأزمة الليبية هو الموقف الروسي الذي بات أمرا واقعا وفيه قدرا غير مسبوق من التماهي مع الموقف التركي على الرغم من أننا تعودنا على المواقف البراغماتية التي يتبعها الروس في معالجة الأمور بعيدا عن لفت الأنظار بما يظهر كأنها أقرب للحياد،  وذلك لتحقيق قدر عالٍ من المرونة في التعامل مع ملفات المنطقة الشائكة، إلا أن موقفها الأخير الذي تمثل في التوسط “الضغط” على الجيش الليبي للقبول بهدنة لإيقاف التقدم في أحياء طرابلس، وتفسير ذلك بين الروس والأتراك من مصالح متبادلة، فقد سبق للبلدين أن تجاوزا كارثتين عصيبتين، والفضل في ذلك يرجع لاتفاقيات نقل الغاز عبر الأراضي التركية في مشروع ترك ستريم وتصديره لأوروبا وكذلك شرائه واستخدامه محليا في تركيا، إضافة لاتفاقيات التبادل التجاري للبضائع والمنتجات الاستهلاكية، وقد تمت تلك الاتفاقيات في وقت وجدت فيه روسيا وتركيا نفسيهما في موقف دولي حرج بسبب خلافاتها مع الأوروبيين والأمريكيين التي تجعلهما يعتمدان على بعضهما ويستغنيان عن غيرهما، وكان ذلك كفيلا بأن يشفع لأنقرة مرتين عند موسكو، ففي مرة قتل حارس رسمي تركي متطرف سفير موسكو لدى أنقرة على الهواء مباشرة، والأخرى أسقطت فيها تركيا طائرة حربية روسية وقتلت قائدها على الحدود السورية التركية.

ويبدو أن هذه هي المرة الثالثة التي يفضل فيها الروس الوقوف إلى جانب مصالحهم ويصطفون إلى جانب تركيا في هذه المرحلة من عمر الصراع الليبي بعد أن فقد الأتراك عددا من الجنود وتضررت سمعة أردوغان أمام شعبه، فلجأ إلى روسيا لتنقذه من ورطته.

وفي تقديري لو كان نظام الجامعة العربية نظاما يمتلك قوة القرارات الملزمة والقوة العسكرية التي تتمتع بها كيانات مشابهة كما أسلفت، لما شاهدنا مسؤولين من دول خارج المنظومة العربية يجتمعون بأردوغان للتفاوض حول “عدم التصعيد” في ليبيا!! وكأنه بات طرفا أصيلا مسلما به في الصراع الليبي – وهو تماما ما ينشده – ولما تدخلت أطراف غير عربية لإدارة الصراع وفرض أمر واقع تتحكم فيه برغبتها.

بناء عليه لا بد من إعادة النظر في نظام عمل الجامعة العربية لأن دُولَه بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لكيان قوي التأثير سياسيا وعسكريا، يقوم على رعاية مصالح الدول الأعضاء، ويمنحهم بعض الامتيازات البينية ويوفر لهم الحصانة الأمنية، بدلا من حالة المجاملات والمواقف التي لا تسر الغريب قبل القريب والتي تدفع أصحاب الأطماع لإبقاء نار الأزمات مشتعلة لمصلحتهم قبل أي شيء، وقد كان العرب قاب قوسين أو أدنى من اتخاذ قرار يغير موازين القوى التقليدية في المنطقة.. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى