“مناظراتي” مع القرضاوي
عبدالحق الصنايبي
عندما يتغلب الطرح السياسي على المعتقد ويصبح الدين في خدمة الأجندة السياسية لتنظيمات الإسلام السياسي، يُستباح الكذب ويُشرعن القتل وتُصبح التقية معطى ثابتا في الخطابات الإخوانية، ونستحضر في هذا السياق حديث الرسول الكريم ﷺ الذي أخرجه الطبري في “تهذيب الآثار” (3/135) من طريق عمر بن إسماعيل الهمداني، عن عبدالله بن جراد، أنه سأل النبي ﷺ فقال: “يا نبي الله، هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك، قال: يا رسول الله، هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك، قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن؟ قال: لا”، هذا التوصيف النبوي الذي ينفي صفة الإيمان عن من يكذب في أمور معاشية، نجده معطى ثابتا حتى في مسائل الاعتقاد عند جماعة الإخوان “المسلمين”.
مناسبة هذا الطرح ما قاله يوسف القرضاوي في إحدى اللقاءات التلفزيونية حين نفى أي علاقة لجماعة الإخوان “المسلمين” بالعنف والاغتيال، واعتبرهما خارج دائرة البناءات الفقهية والأيديولوجية للتنظيم الإخواني منذ تأسيس الجماعة على يد حسن البنا سنة 1928م، حيث يقول: “ومن يقرأ التاريخ، وأنا كتبت هذا في كتابي “الإخوان المسلمون، 70 عاما في الدعوة والتربية والجهاد”، ودافعت عن الإخوان.. واتهام الإخوان في هذا الوقت بعد أن تركوا كل أشكال القوة والعنف، اتهام ظالم، ولا أساس له إطلاقا، ولا تدل عليه مواقفهم.. موقف الإخوان المسالمة.. والإخوان لا دربوا إخوانهم ولا حملوا سلاحا ولا عندهم معسكرات للسلاح”. انتهى كلام يوسف القرضاوي.
وإذا كان حبل الكذب الإخواني قصيرا، وغالبا ما يتم افتضاحه بسرعة، وهو ما وقع مع القرضاوي نفسه، حين اعترف بأن الإخوان “تركوا” كل أشكال القوة والعنف (بمعنى أنهم سبق وأن لجؤوا إليها)، فإن للتاريخ منطقه الخاص، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستمرار في إنكار عمليات الإرهاب والاغتيال التي تورط فيها التنظيم الإخواني منذ ثلاثينيات القرن الماضي، كان من أبرزها عملية اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا والقاضي أحمد بك الخازندار ورئيس الوزراء ووزير الداخلية محمود فهمي النقراشي باشا، بالإضافة إلى اغتيال الرجل رقم اثنان في التنظيم السيد فايز من طرف رئيس التنظيم الخاص عبدالرحمن السندي ومحاولة اغتيال جمال عبدالناصر فيما عرف إعلاميا بـ”حادثة المنشية”.
إن ما صرح به القرضاوي يدفعنا إلى إعادة فتح ملفات التاريخ الدموي للإخوان، معتمدين في ذلك على منطق العلم والتحقيق مع الركون إلى كتابات قيادات إخوانية من الصف الأول كانت شاهدة على جرائم الاغتيال ومشاركة في بعضها الآخر، لتكشف لنا مذكراتهم حجم الدماء والإرهاب الذي ظل ماركة مسجلة “للإخوان”، حيث اعتبرت الجماعة، بحق، مفرخة الإرهاب والاغتيال والعباءة التي خرج منها مارد التكفير والتفجير.
التنظيم الخاص للإخوان المسلمين: الجناح المسلح للجماعة
في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي لعبت مجموعة من الظروف المرتبطة بالوضع المصري الداخلي والإقليمي إلى موجة من “العسكرة” التي عرفتها القوى السياسية دفعت إلى الإسراع بتشكيل أجنحة عسكرية موازية للتنظيمات السياسية، وقد ساعد على ذلك ما وقع في مارس سنة 1936، حين أبرم حزب الوفد، بزعامة مصطفى النحاس باشا، المعاهدة الشهيرة مع الإنجليز، وكان ذلك إيذانا بانطلاق العمليات العسكرية التي تبنتها الأحزاب السياسية بمختلف أطيافها ضد الاحتلال الإنجليزي.
دفع هذا المناخ المتشنج حسن البنا إلى تبني فكرة إنشاء جناح عسكري لجماعته انطلاقا من فهم خاص للدعوة الإسلامية على اعتبار أن الإسلام “عقيدة وعبادة ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف”، ومن هنا جاء شعار الإخوان عبارة عن مصحف وسيفين تتخللهما كلمة “وأعدوا”.
ومن خلال البحث في تاريخ الجماعة، يتضح أن حسن البنا تشرب عقيدة العنف من والده عبدالرحمن البنا الساعاتي. هذا الأخير كتب في مجلة “النذير” سنة 1938 يقول: “اعكفوا على إعداد الدواء فى صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأُمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، استعدوا يا جنود، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر وفي عيونهم عمى”.
ومن الأب إلى الابن حسن البنا الذي يسترسل في “مذكرات الدعوة والداعية” فيقول: “إن من يشق عصا الجمع فاضربوه بالسيف كائناً من كان”. ويضيف في مجلة “النذير” لسنة 1939:”وما كانت القوة إلا كالدواء المر الذي تحمل عليه الإنسانية العابثة المتهالكة حملاً ليرد جماحها ويكسر جبروتها وطغيانها”.
نظام الجوالة:
وفي سياقات الصراع حول السلطة، بدأ حسن البنا في إنشاء ما أسماه بـ”نظام الجوالة”، وهي عبارة عن اختراق للحركة الكشفية عبر تجنيد شباب الإخوان وانضمامهم إليه، وأصبح نظام الجوالة هذا بمثابة المفرخة التي أنتجت وحدات من خيرة الأفراد انضباطاً والتزاماً ليتشكل منها النظام الخاص أو الجهاز السري، وفي هذا يقول حسن البنا في رسالة “التعاليم”: “يجب على الأخ أن يعد نفسه إعداداً تاماً ليلبي أمر القائد في أية ناحية، إن الدعوة تتطلب منا أن نكون جنوداً طائعين بقيادة موحدة، لنا عليها الاستماع للنصيحة، ولها علينا الطاعة، كل الطاعة في المنشط والمكره”، وأيضاً “يتعين على العضو الثقة بالقائد والإخلاص والسمع والطاعة في العسر واليسر”.
وفي كتابه “حقيقة التنظيم الخاص”، يقول محمود الصباغ حول هذا الجهاز: “هو تنظيم سري عسكري خصص لأعمال الجهاد في سبيل الإسلام “. كما عرّفه منتصر الزيات، محامي الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين بأنه: “التنظيم الذي كان يُدير جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت بطريقة سرية، يعني هذا التنظيم السري الذي كان يقوم بمهام خاصة، مهام لا تستطيع الجماعة أن تتبناها علنا، لكن من الممكن أن تمارسها سراً “.