من التصعيد إلى الواقعية.. جبهة البوليساريو تراجع خطابها وتذعن للمقاربة المغربية
في تحول لافت، أكدت جبهة بوليساريو استعدادها لتقاسم ما وصفته بـ”فاتورة السلام” مع المغرب، وقبولها العودة إلى طاولة المفاوضات بعد أن فقدت هامش المناورة، وذلك بالتزامن مع انعقاد جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة ملف الصحراء المغربية. ويعكس الموقف الجديد للجبهة الانفصالية رغبتها في التكيف مع الواقع الذي يفرض عليها الموافقة على مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية لإنهاء النزاع المفتعل، في ظل الإجماع الدولي على أنه الحل الوحيد لتسوية القضية.
ودعا محمد يسلم بيسط، وزير خارجية الكيان غير الشرعي، خلال ندوة صحفية عقدها الأربعاء بالعاصمة الجزائرية، إلى “إيجاد حل للنزاع بطريقة تفتح المجال أمام مرحلة جديدة”.
وتابع أن “السلم مع المغرب ستترتب عنه فاتورة كبيرة”، مضيفاً “نحن كصحراويين مستعدون أن ندفع الجزء الذي يعود لنا من هذه الفاتورة، مهما مثَّل ذلك من تنازلات سياسية أو نفسية أو اقتصادية”.
ولم يأتِ تخلي الجبهة الانفصالية عن نبرتها العدائية من فراغ، بل هو نتيجة تفاقم عزلتها الدبلوماسية وتلاشي طرحها الانفصالي الذي بات من الماضي، بعد أن نجح المغرب في فرض مبادرة الحكم الذاتي كإطار وحيد للتفاوض.
وكان إبراهيم غالي، زعيم جبهة بوليساريو، قد بعث قبل أيام من انعقاد جلسة مجلس الأمن برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أشار فيها إلى أن “الجبهة مستعدة لتقاسم فاتورة السلام مع المغرب”، ما يؤكد استعدادها لتقديم تنازلات.
وصرح قياديون في الجبهة مؤخرا بأنهم “مستعدون لقبول الحكم الذاتي المغربي إذا قبله الصحراويون من خلال استفتاء”، وأنهم قدموا مقترحاً موسعاً للأمين العام للأمم المتحدة يتضمن خيارات من بينها الاندماج وميثاق الارتباط الحر الذي يشبه المقترح الذي تطرحه المملكة.
وجاءت المرونة الجديدة للجبهة بعد نجاح الرباط في تفكيك ما تبقّى من شبكات الدعم القديمة، بفضل دبلوماسية هادئة وفعالة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس على مدى سنوات، تركزت على بناء شراكات اقتصادية وتنموية متينة في القارة الإفريقية، وتعزيز الحضور الدولي للمغرب داخل الأمم المتحدة ومؤسساتها.
ويُجمع المراقبون على أن المغرب استطاع أن يحوّل الملف من نزاعٍ سياسي إلى قضية تنميةٍ واستقرارٍ إقليمي، وهو ما جعل المجتمع الدولي يتعامل مع مبادرة الحكم الذاتي بوصفها الحل الوحيد الواقعي الذي يضمن مصالح جميع الأطراف.
ويصوِّت مجلس الأمن في 31 أكتوبر/تشرين الأول على مشروع قرار جديد بشأن الصحراء المغربية، وسط مؤشرات إيجابية بالنسبة إلى المملكة، بالنظر إلى أن ثلاث دول دائمة العضوية في المجلس تدعم المقترح المغربي، وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فيما أرسلت روسيا إشارات تؤكد خروجها من دائرة الحياد الإيجابي إلى تأييد القضية المغربية.
وحققت الرباط اختراقات دبلوماسية كبيرة، أبرزها اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المملكة على الصحراء، تلاه تأييد من دول أوروبية كبرى مثل إسبانيا وألمانيا وفرنسا لمبادرة الحكم الذاتي، باعتبارها الحل الجاد والواقعي وذي المصداقية لإنهاء النزاع.
وقدمت واشنطن، منذ نحو أسبوع، لمجلس الأمن الدولي، بصفتها “حامل القلم” في ملف الصحراء المغربية، مسودة نصت على ترسيخ مقترح الحكم الذاتي المغربي كإطار وحيد وأساسي للحل. كما حثت الجزائر وجبهة بوليساريو على العودة إلى طاولة المفاوضات دون أي تأخير.
ويشير الموقف الجديد للجبهة الانفصالية إلى توجسها من احتمال مصالحة بين المغرب والجزائر بوساطة أميركية، وهو ما يضعها في موقف أكثر حرجاً ويجعلها في سباق مع الزمن لتأمين وجودها.
وتعتبر الولايات المتحدة إعادة تطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر، الداعم الرئيسي للجبهة الانفصالية، وسيلة للضغط على السلطات الجزائرية لرفع يدها تدريجياً عن الملف، وتسهيل القبول بالحل المغربي.
ولا يمكن للجزائر أن تقيم علاقات مستقرة وكاملة مع واشنطن دون إظهار قدر من المرونة تجاه المغرب الذي يُعتبر الشريك المحوري للولايات المتحدة. وفي حال توقفت الجزائر عن استخدام ملف الصحراء كأداة ضغط على الرباط، ستجد بوليساريو نفسها معزولة بالكامل، وتواجه بشكل مباشر قوة الموقف المغربي دون أي مظلة توفر لها الدعم والتمويل.
ويرى محللون أن الجبهة الانفصالية تسعى إلى التفاوض قبل فوات الأوان، وتحاول تأمين مقعد على طاولة المفاوضات مباشرة مع المغرب برعاية الأمم المتحدة لتحقيق بعض المكتسبات، قبل أن تُفرض عليها التسوية كأمر واقع في حال إبرام صفقة بين المغرب وراعيها الرئيسي الجزائر.
ويبدو أن بوليساريو بدأت تخطو، ولو متأخرة، نحو الاعتراف بالواقع الجديد الذي صنعته الدبلوماسية المغربية الهادئة: واقعٌ يُكرّس سيادة المملكة على أقاليمها الجنوبية، ويُضعف تدريجيًا كل خطابٍ قائمٍ على الانفصال أو الوصاية الخارجية.







