قبل بضعة أسابيع كتبت في هذه النافذة مقالاً بعنوان “قطر ومتلازمة الفساد والإفساد” أشرت فيه إلى ما كشفت عنه وسائل إعلام غربية عريقة من أدلة دامغة على وقائع رشاوى وفساد مالي كثيرة ومتلاحقة وقعت خلال فترة وجيزة وتورطت فيها الحكومة القطرية، “أموال سوداء” تراوح منصب وموقع المستفيدين منها ما بين موظفين صغار كما حدث في واقعة مطار جون كيندي في نيويورك التي تعلقت بتقديم هدايا وتسهيلات إلى موظفة بالمطار وشخص أخر منذ عام 2014، من أجل الحصول على استثناءات تخص الطائرات القطرية، والسماح لها بالمبيت في المطار أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما يتعارض مع القواعد المعمول بها في هذه المناسبة، وصولاً إلى رئيس دولة بحجم فرنسا الذي تدخل تحت تأثير أموال قطر لمنحها حق استضافة كأس العالم، مروراً بأساتذة جامعيين ومسؤولين بارزين في مؤسسات أمريكية عريقة مثل الكونجرس والمخابرات المركزية بهدف تشيه الملف الأمريكي الذي كان ينافسها على شرف استضافة كأس العالم، أما الإرهابيون فقد كان لهم نصيب الأسد من تلك الأموال السوداء، كما حدث في فدية المليار دولار التي التي دفعت لمجموعات إرهابية مرتبطة بإيران في العراق، وفي محاولة لتحليل دوافع النظام القطري في انتهاج مثل هذه السياسة القائمة على الفساد والإفساد، أشرت إلى أن وقائع الفساد هذه وسقطات الأخلاق التي تم كشفها ليس مجرد هفوات فرضتها ضرورة آنية أو وقائع فردية غير قابلة للتكرار، وإنما تعكس نسقا سياسياً ونهجاً منظماً في التفكير وطريقة في التعاطي مع أحلام وطموحات تفوق كثيراً القدرات والمقدرات، لذا فإن تكرارها أو كشف المزيد منها أمر متوقع، وجزمت وقتها بأن كتاب الفضائح القطرية لم يطوِ بعد، فالمداد لا يزال كثيراً، وما خفي كان أعظم، وما سيتم كشفه قد يكون أكثر خطورة، وهو ما حدث بالفعل، فيوم الأربعاء الماضي، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن قيام النظام القطري باستخدام أمواله السوداء من أجل التأثير على سياسات وقرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حيال الأزمة الخليجية، وذلك بعد تصريحات للرئيس الأمريكي بدا فيها أنه يؤمن بعدالة موقف الدول الأربع المقاطعة لإمارة الإرهاب ويدعم مطالبها ويتفهم قراراتها. الصحيفة الأمريكية كشفت عن محاولات قطر في فتح قنوات تعاون مع قائمة تضم 250 شخصاً من المقربين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبإمكانهم التأثير على سياساته، بما فى ذلك حاكم ولاية أركنساس السابق الجمهوري مايك هاكابي، بحكم تولي ابنته سارة ساندرز منصب الناطقة باسم البيت الأبيض في إدارة ترامب، والمحامي الشهير والخبير القانوني اليهودي وأحد داعمي حملة ترامب الانتخابية آلان ديرشوفيتز، والمذيع المحافظ جون باتشيلور، الخطة تضمنت سفر الأشخاص الذين تضمنتهم القائمة إلى الدوحة، بدعوة من الأمير”تميم بن حمد آل ثاني”، مقابل حصول كل منهم على 50 ألف دولار أمريكي، وسافر بالفعل 20 شخصاً من هذه القائمة إلى الدوحة من بينهم هاكابى وديرشوفيتز، تقرير الصحيفة اعتبر أن “هذه العملية لتمرير مصالح قطر كانت خطة غير تقليدية للتأثير على رئيس غير تقليدي”، مشيرة إلى أن قطر أنفقت في الولايات المتحدة عام 2017، وهو عام المقاطعة العربية لها، مبلغ 16.3 مليون دولار، من أجل كسب الدعم السياسي في الولايات المتحدة، بينما وصل ذلك المبلغ 4.2 مليون دولار فقط في عام 2016، أي قبل عام من اندلاع الأزمة الخليجية، ما يعني أن الرقم تضاعف 4 مرات، واعتباراً من يونيو 2018 كانت قطر توظف بشكل مباشر 23 شركة ضغط، مقارنة بسبع شركات فقط عام 2016، وأنفقت بعض تلك الأموال على جماعات الضغط، التي تربطها علاقات مع ترامب وتم دفع أموال لآخرين من أجل دخول قاعات الكونجرس، بهدف الضغط على المشرعين وكبار المسؤولين في الإدارة وتغيير مواقفهم فيما يتعلق بالأزمة الخليجية. ما كشفت عنه الصحيفة الأمريكية وإن بدا كاشفاً لحجم المأزق الذي يعيشه النظام القطري جراء قرار المقاطعة، إلا أنه ليس مستغرباً قياساً على سلوك هذا النظام الذي لا يجيد حصد المكاسب إلا بشراء الذمم والمواقف، حتى لو كانت المواقف لدول كبرى والذمم لرؤسائها ومسؤوليها، فهذه طبيعة نظام لا يتورع عن فعل أي شيء مهما بدا مستهجناً أو محرماً أو مجرماً وصولاً إلى مبتغاه.. ولو كان لدى هذا النظام قلة من عقل ويسر بسيط من الرشادة لأدرك أنه أخطأ العنوان وأساء اختيار الوسيلة، فحل الأزمة التي تسبب فيها نظام الدوحة وإنهاء المقاطعة التي أربكته وكشفت مدى هشاشته لا يكون بتبديد أموال الشعب القطري في واشنطن أو لندن أو باريس، بل بإعادة ضبط بوصلته ليولي وجهه نحو محيطه العربي والخليجي في الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة والاستجابة للمطالب العادلة التي انطلقت من العواصم الأربع.