عودة طالبان
مَن يعش يرَ الكثير، بعضه يكون مفاجئاً، وبعضه الآخر يكون كالقدر المحتوم والقضاء النافذ.
وفي كل الأحوال فإنه هكذا التاريخ، حيث تتغير الأحوال دائماً على عكس ما يتخيله البشر وحساباتهم القاصرة. قبل عشرين عاماً سقط برجا مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك بطائرتين مدنيتين، واصطدمت ثالثة بجدار مبنى البنتاجون –وزارة الدفاع الأمريكية – في واشنطن، أما الرابعة فقد سقطت في مزارع بنسلفانيا بركابها. المحصلة كانت وفاة 19 من الإرهابيين، ومعهم قرابة 3000 من المدنيين و250 من العسكريين الأمريكيين الذين كانت لهم أصول مختلفة.
لم يكن لأحد أن يصدق اعتداء مباشرا للولايات المتحدة التي كانت في الحادي عشر من سبتمبر 2001 هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم، والمنفردة دون منازع بقيادة النظام العالمي بعد أن انهارت قبل عشر سنوات الدولة العظمى الأخرى، الاتحاد السوفيتي.
الاعتداء الإرهابي قام به تنظيم القاعدة الذي كان مقره الرسمي تحت قيادة أسامة بن لادن في أفغانستان، ومنها ينتشر إلى بقية المعمورة. إدارة الرئيس جورج بوش الابن قررت غزو أفغانستان لتدمير التنظيم الذي شن هجومه عليها، وتطيح بقيادة “طالبان” للدولة بمصاحبة جماعات مناوئة للتنظيم الحاكم في العاصمة كابول، استقرت في شمال البلاد.
لم تكن المعركة متكافئة، انسحبت “طالبان” من الحواضر الأفغانية الواحدة بعد الأخرى، وعادت إلى قواعدها في جنوب البلاد، وعلى مدى عقدين من السنين، حاولت الولايات المتحدة أن تعيد تشكيل الدولة الأفغانية “الوطنية” بالطريقة الديمقراطية التي تتمناها، بينما كانت “طالبان” التي شكلت الدولة من قبل على طريقتها، تقاوم “الاحتلال الأجنبي”، أي الولايات المتحدة، ومن لحق بها بعد ذلك من دول حلف الأطلنطي.
الحرب الأمريكية في أفغانستان جرت تحت شعار “مكافحة الإرهاب” ولكنها سرعان ما امتدت إلى العراق تحت شعار “منع انتشار الأسلحة النووية”، وعندما لم يثبت وجود مثل هذه الأسلحة في دولة صدام حسين، فإن الحرب صارت من أجل نشر “الديمقراطية” باعتبار الاستبداد هو الجذر الأصلي للإرهاب.
الآن، فإن الولايات المتحدة تخطو خطوة كبيرة بقرار الرئيس بايدن للانسحاب من أفغانستان بحلول شهر سبتمبر المقبل، بينما كان من الناحية الرسمية على الأقل تجري مفاوضات بدأها الرئيس السابق دونالد ترامب بين الحكومة الأمريكية وحركة “طالبان” تقوم على صفقة: تنسحب القوات الأمريكية والأجنبية من أفغانستان؛ مقابل قيام حركة “طالبان” بالتفاوض مع الحكومة الأفغانية من أجل إقامة نظام سياسي في الدولة يكفل مشاركة جميع الأطراف من ناحية، ويمنع الإرهاب من ناحية أخرى.
قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب يعني عدم اقتناعه أولاً بإمكانية التوصل إلى اتفاق أفغاني، حيث الخلافات بين الأطراف الأفغانية بعيدة بُعد السماء السابعة، وتوازن القوى بينها يمضي في طريق “طالبان” وربما الجماعات الإرهابية معها؛ وثانياً أن الولايات المتحدة بعد أن أنفقت تريليونين من الدولارات على الحرب الأفغانية وفقدت ألفين من القتلى لم تعد على استعداد لإنفاق المزيد، خاصة أنه باتت للدولة الأمريكية أولويات أخرى في العالم، وحتى في الشرق الأوسط ذاته.
وفي شهادة لأحد الخبراء أوردتها صحيفة “واشنطن بوست” في 13 أبريل الجاري ورد فيها: “الحقيقة هي أن الولايات المتحدة لديها مصالح استراتيجية كبيرة في العالم، مثل منع انتشار الأسلحة النووية؛ مثل روسيا التي تزداد حزما؛ مثل كوريا الشمالية وإيران، التي تشكل برامجها النووية تهديدا للولايات المتحدة؛ مثل الصين”.
التهديدات الرئيسية للوطن الأمريكي هي في الواقع من أماكن أخرى: من أفريقيا، من أجزاء من الشرق الأوسط – سوريا واليمن. قال الخبير: “أفغانستان فقط لا ترقى إلى مستوى تلك التهديدات الأخرى في هذه المرحلة. هذا لا يعني أننا نبتعد عن أفغانستان. سنبقى ملتزمين تجاه الحكومة، وسنبقى ملتزمين دبلوماسياً. ولكن فيما يتعلق بالمكان الذي سنستثمر فيه وضع القوة ودماءنا وأموالنا، نعتقد أن الأولويات الأخرى تستحق هذا الاستثمار”.
مقال آخر جاء في نفس الصحيفة ومنشور في 14 أبريل يشير إلى أن بايدن سوف يعلن بشكل صارخ إيمانه بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى تحويل تركيزها إلى أجزاء أخرى من العالم، خاصة آسيا. يأتي الإعلان مع استضافة رئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا، أول زعيم أجنبي يزور البيت الأبيض في عهد بايدن، في جلسة من المتوقع أن تركز بشدة على التهديدات القادمة من الصين. ويأتي ذلك أيضا في الوقت الذي يُتوقع فيه أن يصبح مبعوث الولايات المتحدة للمناخ جون كيري أول مسؤول كبير في إدارة بايدن يزور الصين قريباً، وبعد يوم من دعوة بايدن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحضور قمة مستقبلية. كما دعا بايدن كلاً من بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ لحضور قمة المناخ التي رعتها الولايات المتحدة. ونقلت الصحيفة عن مستشارين في إدارة بايدن أن هذه الجهود تمثل تحديا كافيا دون عبء الصراعات القديمة التي أعاقت الرؤساء لعقود، حيث حاول ثلاثة رؤساء وفشلوا في الخروج من الحرب في أفغانستان، وكان بايدن نائبا للرئيس عندما انتهى الأمر بأحدهم، باراك أوباما، إلى توسيعها بشكل كبير بدلاً من ذلك.
عارض بايدن خطة وزارة الدفاع لبدء إضافة قوات في عام 2009، العام الأول لإدارة أوباما وبايدن، وأبقى على شكوكه مع تضخم الحرب. الآن لدى بايدن الفرصة للتصرف بناءً على آرائه الراسخة، وبعد أقل من ثلاثة أشهر في إدارته. “يؤمن الرئيس بشدة بأنه في مواجهة التهديدات والتحديات في عام 2021 – على عكس تلك التي حدثت في عام 2001 – نحتاج إلى تركيز طاقاتنا ومواردنا وموظفينا ووقت سياستنا الخارجية وقيادة الأمن القومي على تلك التهديدات. القيام بذلك يتطلب من الولايات المتحدة إغلاق الكتاب حول الصراع المستمر منذ 20 عاما في أفغانستان والمضي قدما بعيون واضحة واستراتيجية فعالة لحماية مصالح الأمن القومي لأمريكا والدفاع عنها”.
تنطبق نفس النظرية على جهود بايدن لتقليل مرتبة الشرق الأوسط كأولوية مركزية، باستثناء التركيز على برنامج إيران النووي. لقد نأى بنفسه عن القادة في الشرق الأوسط ولم يتخذ أي خطوات لإطلاق محادثات سلام بين إسرائيل والفلسطينيين على عكس العديد من أسلافه الذين تولوا المنصب مصممين على أن يكون كل منهم الرئيس الذي يجلب السلام إلى الشرق الأوسط. على عكس معظم الرؤساء الجدد، جاء بايدن إلى البيت الأبيض مع عقود من الخبرة في مشاهدة الرؤساء الآخرين ينجحون ويفشلون، وقد أوضح أنه يحاول تعلم الدروس من تجاربهم.
هذا التقدير لسياسة بايدن الخارجية يبدو مبكراً للغاية، وبسيطاً أكثر مما يجب، خاصة أن العالم لا يسير وفق التخطيط الذي تضعه الولايات المتحدة وحدها. فـ”طالبان” التي تبدو طرفاً آخر في المعادلة الأفغانية وقفت في مواجهة الخطة الأمريكية التي تحقق السلام في أفغانستان، التي كان مقرراً التفاوض حولها في تركيا؛ كما أعلنت أنها لن تقبل بأي تأخير في الانسحاب الأمريكي أو قوات حلف الأطلنطي.
“طالبان” وقد عرفت الآن أن الولايات المتحدة سوف تنسحب في كل الأحوال، فإنها لا تبدو مضطرة لقبول دولة تقوم على الدستور والانتخابات والمساواة بين الرجل والمرأة والمراجعة من قبل علماء دين إسلامي يقوم تفسيرهم على الاعتدال. “طالبان” تريد كابول كما تركتها قبل عقدين، وهناك سوف تستأنف مسيرتها مع العالم ومع قوى الإرهاب المختلفة.