سياسة

زيارة “بايدن”.. بين التوقعات والإنجازات

نديم قطيش


عشية زيارته إلى الشرق الأوسط، كتب الرئيس الأمريكي جو بايدن مقالا مفصّلا في صحيفة “واشنطن بوست” يشرح فيه مقاصده من الزيارة.

وتوقف في مقاطع كثيرة عند المملكة العربية السعودية، حتى حين لم يذكرها، حيث إن طُرُق الكثير من الملفات التي عرضها تمُر في الرياض.
لكن الرسالة الأهم هي عبارته اللافتة التي يتعهد فيها بـ”تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع السعودية”!
هل نحن أمام مبالغة خطابية جديدة، ولكن في الاتجاه المعاكس تمامًا للمبالغات التي أضرت بالعلاقات بين الرياض وواشنطن، أم أمام نقطة تحول حقيقية باتجاه “تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع السعودية”؟
في السياسة، تكاد تكون إدارة التوقعات، هي السياسة نفسها، في التعريف الأخير.. هذه الإدارة للتوقعات هي أكثر ما يَلزم اليوم بإزاء متابعة زيارة الرئيس “بايدن” إلى المملكة ومشاركته في القمة الخليجية الموسعة التي تستضيفها مدينة جدة، بغية التفريق بين ما هو مشهديات احتفالية بكل ما تحمله من معانٍ رمزية مهمة، وبين ما هو نتائج سياسية عملية للحدث السياسي.
تحتاج الزيارة، ولأسباب أمريكية في الغالب، إلى الكثير من “إدارة التوقعات” بشأنها بعد ما نسب إليها من قدرات تغييرية على مستوى الشرق الأوسط برمته ما لم يكن على مستوى العالم.
على مستوى العلاقة الثنائية، لا خلاف على الأهمية الرمزية والسياسية للتغيير الذي طرأ على موقف الإدارة الأمريكية من المملكة، والإدراك الواقعي والموضوعي لموقعها في الشرق الأوسط والسياسة الدولية.
وأمريكيًّا، يشير هذا التغيير إلى إدراك الحدود التي يمكن أن تذهب إليها سياسة خارجية تقوم بشكل مبسط وشبه حصري على مثاليات أخلاقية، لا سيما حين لا تكون السياسة الخارجية الأمريكية ثابتة في تبني هذه المثاليات مع جميع الدول وفي كل الملفات… فهذا تغيير يصب في مصلحة أمريكا أولا، لأنه يعيد الكثير من التوازن إلى دورها وقدرتها على المناورة وبناء التحالفات في عالم صاخب ومتوتر تحاصره استحقاقات وجودية حول أسئلة المستقبل في الاقتصاد والصحة والأمن.
وسعوديًّا، تشكل الزيارة بلا أدنى شك انتصارًا سياسيًّا كبيرًا لموقف المملكة، ولمعركة الهيبة والحضور والموقع التي خاضها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بكل هدوء ورصانة، خارج تقاليد “العنتريات العالمثالثية” العربية وغير العربية التي يعج بها أرشيف علاقات هذه الناحية من العالم مع الدولة الأولى فيه.
فحين تحدث الأمير محمد في أكثر من إطلالة، لا سيما في مقابلته في مجلة “ذي أتلانتيك” تحدث بلغة المصالح المشتركة ومعرفة كل طرف بها وما يريده من الآخر، مؤكدًاما تراه وتريده الرياض من العلاقات الأمريكية-السعودية كما من علاقاتها بكل الأقطاب الرئيسية في العالم اليوم.
الأهم أنه قسم حديثه ورسائله إلى قسمين، ما يتعلق منها بأمريكا، وعظمتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، وبين إدارة محددة صاحبة موقف محدد، لها فيه ما لها وعليها ما عليها.
في الأبعد من ذلك، يبدو لي أن ثمة خلطًا غير موفق في المقالة الرئاسية بين “تعزيز العلاقة الاستراتيجية الأمريكية-السعودية” وبين ملفات معقدة كحرب اليمن والسلام العربي الإسرائيلي والملف النووي الإيراني والتنافس الصيني الأمريكي، وهي ملفات يحتاج التفاهم حولها مع واشنطن إلى الكثير من المكونات والعناصر غير المتوفرة الآن، أو غير المكتملة، أو أن بعضها يتطور بمعزل عن واشنطن ودورها فيها.
لا تحتاج المملكة لدور أمريكي يذكرها بضرورة انتهاء حرب اليمن.. فهذه حرب اضطرار لا حرب اختيار من وجهة نظر الرياض، وانتهاؤها لا يقتصر على قرار تتخذه القيادة السياسية، من جانب واحد.
قبل أيام فقط كشفت البحرية الملكية البريطانية أن إحدى سفنها الحربية صادرت أسلحة إيرانية، بما في ذلك صواريخ أرض جو ومحركات لصواريخ كروز، من مهربين في المياه الدولية جنوب إيران في وقت سابق من هذا العام.
وأشار بيان البحرية الملكية إلى أن صاروخ كروز من طراز 351، الذي يبلغ مداه ألف كيلومتر، كثيرًا ما تستخدمه جماعة “الحوثي” اليمنية لاستهداف السعودية والإمارات!
يبدأ تعزيز العلاقات الاستراتيجية السعودية الأمريكية من تطوير الفهم الأمريكي لأزمة اليمن ونقلها من إطار “الأزمة الإنسانية” إلى إطارها الواقعي كجزء من “أزمة الدور الثوري الإيراني في المنطقة”.
ولا تحتاج المملكة أيضًا إلى دور أمريكي في تعزيز السلام في الشرق الأوسط، خارج الدور الأمريكي الموضوعي في عملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني.
أما العلاقات السعودية-الإسرائيلية فلها مسارها الذي ينطلق من مصالح الطرفين والرؤية التي عبّر عنها الأمير محمد بن سلمان بلا قُفازات حين وصف إسرائيل بـ”الحليف المحتمل”.
وهذه العلاقة تتطور كجزء رئيسي من الهندسة الاستراتيجية الآخذة في التشكل في الشرق الأوسط تحديدًا بسبب الانطباعات المتنامية عن ارتباك الدور الأمريكي والنوازع الانسحابية التي تصيبه بين الحين والآخر.
كما أن المملكة لن تحشر نفسها في زاوية الخيار بين الصين وأمريكا، كما كانت الحال إبان الحرب الباردة.
فالصين ليست الاتحاد السوفيتيي في فهم مصالح الأمن القومي السعودي.. أما العلاقات التجارية والنفطية والشراكات المتعددة في مجال السلاح والتكنولوجيا وتطوير الموارد الطبيعية غير النفطية، بين الرياض وبكين، فليست من النوع المعروض للمقايضة، بل يشكل قاعدة استراتيجية لتنويع علاقات المملكة وصون موقعها في العلاقات الدولية، لا رد فعل مؤقتًا على موقف الإدارة الأمريكية.
كل هذا يسير بمعزل عن سوء أو جودة العلاقة بواشنطن.
ما ينقص زيارة الرئيس “بايدن” إذًا، هو الإحساس بأن الشراكة الاستراتيجية التي يتم الحديث عنها تنبع من كونها خيارًا واضحًا بين بلدين يقوم على تحديد المخاطر وتعريف المصالح، ويغلب عليها الشك أنها تعبير عن ارتباك سياسي لحكومة تخفي أزمة مؤقتة.
واشنطن اليوم ليست في أفضل أحوالها، وهذا أمر يحزن حلفاءها في الشرق الأوسط العاقل، ويُفرح الأعداء المشتركين معها.
فأمريكا تواجه، مع العالم، أعلى مستويات التضخم في عقود، وحوادث إطلاق النار الجماعي شبه الأسبوعية تنال من روعة الحلم الأمريكي حول العالم، وطبول الحرب الأهلية القيمية حول الجندر والعرق والجنس والإجهاض تصيب الأمة بمستويات غبر مسبوقة من القلق… أما التشاؤم فهو سمة المواطن الأمريكي اليوم، حيث تشير آخر الاستطلاعات إلى أن 10% فقط من الأمريكيين يعتبرون أن البلاد تسير على الطريق الصحيح.
هذه ليست ظروفًا موضوعية لتعزيز العلاقات الاستراتيجية، بل فرصة جدية للبحث العاقل فيها بعيدًا عن الأوهام التي أضاعت الكثير من الوقت والرصيد وبددت الكثير من مخزون الثقة.
نقلا عن “الشرق الأوسط”

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى