خطة إيران لإعادة واشنطن إلى “الاتفاق الرديء”!
توتر شديد اعترى ما صدر عن إيران في الأيام الأخيرة بصدد الملف النووي. وبدت مواقف طهران في تناقض مرتبك، لأنها تراوحت بين الإشادة بمباحثات فيينا من جهة، وإطلاق مواقف تصعيدية، من جهة ثانية.
وصعدت إيران عبر افتتاح خطوط جديدة من أجهزة الطرد المركزي من جيل متقدم في مفاعل “نطنز”، وهو ما يلوح بسير البلد نحو تطوير قنبلة النووية.
والحال أن إيران تسرّعت في توقعاتها بشأن الموقف الذي سيتخذه الرئيس الأميركي جو بايدن حال دخوله إلى البيت الأبيض. كانت طهران تتخيل أن الرجل سيندفع أمام كاميرات العالم للتوقيع على مرسوم عودة بلاده إلى “اتفاق فيينا” التزاما بوعوده الانتخابية، على منوال ما فعل سلفه دونالد ترامب أمام كاميرات العالم بالتوقيع على مرسوم الانسحاب من هذا الاتفاق التزاما أيضا بوعوده الانتخابية.
والظاهر أن التعويل على رجل أميركا الجديد لم يأت من فراغ، ذلك أن تواصلا، عبر قنوات خلفية، كان قد تم بين إيران وجهات مقربة من المرشح الديمقراطي كانت تعد بما تأمله طهران، بدليل مواقف المرشح نفسه الواعدة في هذا الشأن. بيد أن حسابات الحقل في طهران لا تتطابق مع حسابات البيدر في واشنطن.
ولئن يختلف النمط السلوكي لترامب عن خليفته بايدن، إلا أن حوافز الرجلين تنطلق من مصادر واحدة.
لم يكن دونالد ترامب، رجل العقارات الكبير الوافد من مجتمع الأعمال، سياسيا محترفاً قبل أن يترشح للانتخابات الرئاسية في بلاده عام 2016. ولم يكن طبعا خبيرا في السياسة الخارجية والعلاقات الجيوستراتيجية في العالم.
كما أن تظهير موقفه مبكراً في معاداة الاتفاق النووي لم يكن مادة استثنائية ضرورية حاصدة لأصوات الناخبين في أرياف أميركا ومزارعها، أو لدى المهمشين، الذين لطالما تجذبهم لغة فرص العمل ومستويات الدخل والخطاب الأميركي المحافظ.
ما نطق به ترامب وما يسعى إليه بايدن يقومان على قرار المؤسسات الأميركية بالتعامل مع “خطأ” التسرع في تلفيق اتفاق عام 2015، الذي اكتشفت واشنطن سريعا أنه “اتفاق رديء”. وما يصدر عن طهران هذه الأيام يعكس اندهاشها من موقف الإدارة في البيت الأبيض، من حيث تمسكها بعقوبات ترامب رغم الاستعداد المتدرج لرفع جزئي لبعضها.
وإذا ما كانت فكرة البرنامج النووي الإيراني تنهل حوافزها من امتلاك أداة رادعة لحماية نظام الجمهورية الإسلامية، فإن روحاني، الذي يمثل الواجهة “المعتدلة” التي تتعامل مع المجتمع الدولي، يتطوع نيابة عن كل المنظومة السياسية والأمنية والعسكرية الإيرانية، لإبلاغ العالم بأن بلاده تسير صوب سلاح سبق للمرشد علي خامنئي أن أفتى بـ “تحريم إنتاجه وتخزينه واستخدامه في ظل الإسلام”.
لم تكن مفاوضات فيينا، التي تغزل بها نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ووصفها بالبناءة، سببا وجيهاً للتصعيد النووي الطارئ في إيران. لا شيء مفاجئ في العاصمة النمساوية يختلف عما هو مقرر من تشكيل لجنتين من الخبراء، واحدة لجرد انتهاكات إيران للاتفاق وواحدة لجرد العقوبات الأميركية والسير بمفاوضات لتبادل التنازلات.
بيد أن طهران استنتجت من المناسبة أن واشنطن غير مستعجلة للعودة إلى الاتفاق، وفق ما أعلن روبرت مالي المبعوث الأميركي الخاص لشؤون إيران، الذي استبشرت طهران بتعيينه خيراً. واستنتجت أيضا ضرورة استعادة عدّتها القديمة، في التصعيد والتهويل والتهديد، التي قادت بالنهاية إلى الوصول إلى اتفاقها الشهير مع مجموعة الـ 5+1.
لا تريد إيران إلا “التبشير”، علنا، ودون لبس أو حرج، بخططها للحصول على السلاح “المحرم”. لم تقتنع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين بفتوى المرشد، وفرضت على إيران، في “اتفاق فيينا”، قيوداً صارمة، منها عدم تجاوز تخصيب اليورانيوم نسبة 3.67 بالمئة بصفتها النسبة الكافية لكي ينحصر برنامج إيران النووي بالأغراض المدنية.
وحين تتجاوز إيران، جهاراً، وبشكل رسمي، وبإبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية، النسبة التي وصلت إلى 20 بالمئة، ويدشن روحاني مرحلة تصل بها إلى أكثر من 50 بالمئة، فإن إيران تستدرج عجالة تراها داهمة لعودة الجميع إلى الاتفاق كما هو بنسخته الأصلية بصفته “النعمة” المتوفرة.
لا تجري المفاوضات في فيينا فقط. كل المعنيين في العالم، وخصوصا في المنطقة، لا سيما إسرائيل يشاركون في تلك المفاوضات. منذ أيام دعا الأمير تركي الفيصل في منتدى في البحرين إلى استعداد المنطقة لليوم التالي لحيازة إيران القنبلة النووية.
في التحذير تهديد بسباق تسلح نووي الزامي ستندفع نحوه بلدان المنطقة. وفي التحذير غضب وريبة من احتمال تعايش محتمل للعواصم الكبرى مع الاحتمال النووي الإيراني.
إسرائيل، من جهتها، تدلي بدلو جديد يشكك بما تعده إدارة بايدن. بنيامين نتنياهو يتخذ موقفا لا يمكن اعتباره إلا معاديا لمقاربات واشنطن. يصدح بأن إسرائيل غير ملزمة بأي اتفاق مع إيران، فيما حرب السفن جارية على نحو نوعي ومتصاعد ضد إيران، وتتكثف الضربات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا.
ولئن ذهبت إدارة باراك أوباما إلى نسج الاتفاق النووي مع إيران تجنبا لحرب قد تشنها إسرائيل وتجنبا لتورط بلاده بحرب داعمة لإسرائيل، فإن عامل الأمن الإسرائيلي ليس تفصيلا داخل المؤسسات الأميركية الأمنية كما داخل الكونغرس ولدى لوبيات الدعم التقليدية، وهو أساس تقليدي في سياسة واشنطن في المنطقة وفي مقاربتها للملف النووي في إيران.
والأمر من الجسارة بحيث تتوجه هذه الأيام وفود أمنية عسكرية إسرائيلية عالية المستوى إلى الولايات المتحدة ويتوجه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى إسرائيل.
الكونغرس الأميركي يشارك في مفاوضات فيينا. المشرعون من الحزبين،الجمهوري والديمقراطي، يحذرون البيت الأبيض. عدم الحصول على نسخة جيدة ومعدلة من “الاتفاق الرديء” لن يحظى بشرعية الكونغرس ولن برقى بالتالي إلى مستوى المعاهدة الملزمة للإدارات الأميركية المقبلة. ما يعني أن تفاهمات بايدن وطهران المحتملة سيطيح بها أي رئيس أميركي في المستقبل. وفي هذا رسالة أميركية إلى أصحاب القرار في واشنطن كما أصحاب القرار في طهران.
تكدست انتهاكات إيران للاتفاق النووي وباتت غاية لا وسيلة. صارت الانتهاكات أوراق مقايضة تبتز طهران بها العالم للعودة إلى الاتفاق النووي بنسخته الرديئة. تعد إيران بالتخلي عن الانتهاكات، شرط العودة إلى اتفاق لا يخضع إلى أي تعديل، ولا تذهب المفاوضات إلى ملف البرنامج الصاروخي وسلوك إيران في المنطقة وملف حقوق الإنسان الذي أضافته إدارة بايدن.
سيعمل الدبلوماسيون في فيينا. سيدلي سياسيو واشنطن وطهران بمواقف وتصريحات وفق أمزجة داخلية يومية. وستصدر عن عواصم الاتفاق علامات وإشارات.
بيد أن أنشطة أخرى عسكرية أمنية مخابراتية خبيثة تعمل بصمت ونجاعة وجب مراقبتها لإسكات أي أخطار لا تتسق مع إيقاع المصالح الكبرى. فلا عجب أن يطرأ “حادث” في نطنز بعد ساعات على تدشين أجهزتها المركزية الطاردة.