في اليوم التالي لإعلان الرئيس بوتين اعتراف روسيا بجمهوريتي دونيستك ولوجانسك، فرضت أمريكا مجموعة من العقوبات الاقتصادية. وتبعتها دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا وأستُراليا واليابان.
و تم الإعلان من جانب هذه الدول عن مجموعة ثانية من العقوبات الاقتصادية والتي اتسمت بكونها أكثر اتساعاً وقسوةً على الاقتصاد الروسي.
شملت المجموعة الأولى منها مُعاقبة عدد من البنوك الروسية المرتبطة بالجيش وصفقات السلاح، وعقوبات على عدد من رجال الأعمال وكبار الأثرياء المُقربين من الرئاسة الروسية، وأعضاء في البرلمان الروسي (الدوما)، وفرض قيود على الصفقات الأمريكية المُتعلقة بالديون الروسية. وذلك إضافةً إلى ووقف استكمال اجراءات بدء تشغيل “نورد ستريم 2” الذي انتهت روسيا من إقامته عام 2021 لنقل الغاز إلى ألمانيا ولم يبدأ العمل به بعد.
وإذا تأملنا في هذه العقوبات، فسوف نجد أنها لم تسعَ إلى إخراج روسيا من شبكة تفاعلات التجارة الدولية. ومرد ذلك، أن العقوبات الاقتصادية على روسيا هي سلاح ذو حدين يؤذي الدولة المُستهدفة، ويضُرُ بمصالح الدول التي تتعامل أو تُتاجر معها.
ويُعتبر الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي من أهم المصالح المُشتركة بين روسيا والاتحاد الأوروبي. إذ تصل نسبة اعتماد دوله على الغاز الروسي 40% من إجمالي استهلاكهم. وتُعتبر ألمانيا من أكثر الدول الأوروبية الكبيرة اعتماداً عليه إذ تستورد قُرابة 65% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، وتليها إيطاليا بنسبة 43%.
لذلك، تحاشت هذه العقوبات ما يُهدد استمرار ضخ الغاز الروسي خاصة مع ارتفاع أسعار النفط والغاز، مما أوجد ضغوطاً اقتصادية على المواطن الأوروبي تضاف إلى أعباء التضخم وعدم انتظام سلاسل الإمداد وصعوبات التعافي الاقتصادي في مرحلة ما بعد كوفيد19.
إن آثار العقوبات الاقتصادية على روسيا سوف تمتد إلى عديد من الدول الأوروبية. وفي مقالٍ نشرته صحيفة “الفاينانشيال تايمز” بتاريخ 8 فبراير الجاري كتبه ثلاثة من المُحررين الاقتصاديين، فإن تلك العقوبات سوف تُلحق أضراراً ضخمة بقطاعات الطاقة، والتجارة، والتصنيع، والبنوك، والأسواق في أوروبا.
وجاءت المجموعة الثانية من العقوبات لتُوسع من نطاق العقوبات التي سبق فرضها، وأضافت حظر تصدير التكنولوجيا المُتقدمة لعدد من القطاعات الصناعية الاستراتيجية الروسية، والحيلولة دون استفادة البنوك الروسية من أسواق المال الغربية، ووضع قيود على استخدامها للدولار الأمريكي والين الياباني، وتجميد الأصول المادية والحسابات البنكية الروسية في البنوك الغربية. وهدفت هذه العقوبات إلى عزل روسيا اقتصادياً وإضعاف قُدراتها.
الجدير بالمُلاحظة أن هاتين المجموعتين من العقوبات لا تضمنا إخراج روسيا من النظام المالي العالمي، والذي كان يُمكن أن يحدث لو تضمنت العقوبات منع البنوك الروسية من استخدم نظام التحويل المالي “سويفت”، والذي من شأنه عدم قُدرة هذه البنوك على القيام بأي أعمال تجارية في الخارج.
من جانبها، أشارت موسكو إلى أنها كانت تتوقع هذه العقوبات ولم تُكن مُفاجئةَ لها. وحسب تصريح الرئيس الروسي يوم 18 فبراير، أشار إلى أن الغرب سيفرض عقوبات جديدة على روسيا في كُل الأحوال وسوف يجدُ الذريعة التي تُبرر اتخاذ هذا الاجراء.
وقبل إعلان المجموعة الثانية من العقوبات، عقد بوتين اجتماعاً مع عددٍ من كِبار رجال الأعمال الروس أكد فيه استمرار روسيا بالعمل في إطار النظام الاقتصادي العالمي باعتبارها جُزءاً منه.
قصد بوتين من ذلك أن روسيا وضعت سياسات للتخفيف من تأثيرات هذه العقوبات، والتي رُبما تضمنت الاحتفاظ باحتياطات مالية من العُملات الأجنبية، والتقليل من الاعتماد على الدولار الأمريكي، وتشجيع الصناعة الوطنية، وتوفير بدائل لاستيراد ما تحتاجه روسيا من غير الدول الغربية.
ومن هذه السياسات أيضاً، توثيق العلاقات الاقتصادية مع الصين وزيادة حجم تصدير الغاز الروسي إليها الذي بلغ 16.5 بليون متر مُكعب عام 2021، سوف يزداد 10 بليون متر مُكعب، وذلك وفقاً للاتفاق بين الرئيسين بوتين وشي جين بينغ يوم 4 فبراير الماضي.
وفي هذا السياق، يثور السؤال حول مدى تأثير هذه العقوبات على الاقتصاد الروسي، وعما إذا كانت سوف تُحدثُ الآثار المُتوقعة.
يستند هذا السؤال إلى حقيقة أن كُل التجارب السابقة في فرض العقوبات الاقتصادية -ومن أبرزها كوبا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية-أثبتت محدودية تأثيرها، وأنها لم تؤدِ إلى تغيير التوجه السياسي للدول التي استهدفتها العقوبات، خاصة إذا استطاعت هذه الدول التحايل عليها والالتفاف حولها.
من الواضح أن هُناك تصميما سياسيا لدى أمريكا وحُلفائها على مُعاقبة روسيا، وأنهم يعتمدون في ذلك أساساً على العقوبات الاقتصادية، لأنهم لا يستطيعون أو لا يرغبون في دخول الحرب دفاعاً عن أوكرانيا.
والأرجح، أن العقوبات سوف تُلحقَ أضراراً بالاقتصاد الروسي، ولكنها لن تؤثر بالضرورة على أهداف روسيا الاستراتيجية.