سياسة

تمرد فاغنر بين الحقيقة والخيال

محمد فيصل الدوسري


ستظل حقيقة تمرد قائد مجموعة فاغنر “يفجيني بريغوجين” على داعمه الرئيسي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غامضة.

فسيرة مالك أكشاك الهوت دوج في سانت بطرسبرغ، والحاصل على لقب (طاهي بوتين)، تؤكد الصلات الوثيقة بين الطرفين، منذ حصوله على عقود تزويد الكرملين والجيش الروسي بمواد تموينية، إلى تأسيسه مجموعة فاغنر العسكرية عام 2014.

لفت نظري الاتهامات التي وجهها بوتين للمعسكر الغربي، بمحاولة الاستثمار في التمرد، والتدخل في شؤون روسيا الداخلية، ولو أن بريغوجين برر تحركاته بمحاولة إنقاذ مجموعته من الحل، ما يعكس وجود خلافات بين وزارة الدفاع الروسية والمجموعة، أو وجود تفاهمات دولية مرتبطة بأنشطة فاغنر، وقد يكون سيناريو استخباراتيًا محضرًا مسبقا، لإعادة تموضع القوات الروسية، لتسجل به روسيا عدة نقاط على الغرب، كما يقال في المثل: “عصفوران بحجر”.

يعتبر سيد الكرملين، الحرب في اوكرانيا مسألة مصيرية، ونجاح العملية يتطلب بذل أقصى الجهود، بما فيها الاعتماد على مناصري بوتين الأشداء، لاسيما: رمضان قاديروف وبريغوجين، وكلاهما يؤيد الإطاحة بنظام زيلينسكي المتواطئ مع الغرب، وإيقاف تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو).

تعمد بريغوجين إحراج وزير الدفاع الروسي وقائد الجيش، بشأن عدم تلقي فاغنر الدعم الكافي، منتقدا استراتيجية روسيا مع الصراع، بأنها تسببت في عسكرة الجيش الأوكراني، نتيجة للدعم الغربي، وبهذا أوصل رسالة لبوتين أن من حقق الإنجازات في الميدان هي قواته.

لقد فرض قائد فاغنر نفسه منذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، ما جعله واجهة عسكرية روسية في مختلف مناطق النفوذ في سوريا وأفريقيا، وبات لاعبا مؤثرا في الأزمة الأوكرانية بعد انتصاره الكبير في باخموت شرق أوكرانيا، مما دفعه لترك العمل في الظل والخروج للضوء، إلى الحد الذي تجاوز به الخطوط الحمراء، ليصبح في دائرة خصوم بوتين (ولو ظاهريا)، ما يجعلني أشك في حقيقة التمرد المفاجئ، فهل تستطيع بلاك ووتر -أحد شركات الأمن الأمريكية- التمرد على دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة؟

لهذا يراقب الغرب ما يجري بحذر، ليس حبا في شرعية بوتين؛ فوساطة الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو”، ستعيد تموضع قوات فاغنر في بيلاروسيا، في ظل توتر قائم مع ليتوانيا وبولندا، مما سيزيد المخاوف الغربية بشأن فاغنر.

دعمت روسيا مجموعة فاغنر بكل السبل، لتقوم بعمليات عسكرية وأمنية بالوكالة، بشكل سريع وفعال في مناطق الصراع المختلفة، وسيناريو التمرد إن كان صحيحا، فهو يغير قواعد المواجهة بين روسيا والغرب؛ فتمرد فاغنر قد يعني أنها تريد الحصول على مكتسبات، تنقلها من شركة خاصة إلى وضعية شبيهة بالحرس الثوري الإيراني، ما يجعلها مستقلة عن الكرملين، وفي نفس الوقت تستفيد روسيا من خدماتها بينما تستطيع التنصل من أفعالها، مما يشكل واقعا جديدا في ميزان القوى الدولي؛ فالآليات القانونية الدولية الحالية لا تشمل المنظمات الخاصة (الميليشيات) التي ترعاها الدول، كون إثبات المسؤولية يشكل تحديا للأنظمة الأممية.

التساؤلات عديدة حول تمرد فاغنر، وجميعها تحتمل الصواب والخطأ، سواء كانت عملية استخباراتية غربية أو سيناريو استخباراتي روسي، إلا أنه من المتوقع حصول تداعيات لأنشطة فاغنر، لهذا علينا التعامل مع الواقع المعلن الرسمي، وهو أن بريغوجين أنهى التمرد، مقابل خروجه سالما إلى بيلاروسيا مع العفو عن عناصر فاغنر، وعودتهم إلى قواعدهم ودمجهم في الجيش الروسي.

لن تتخلى روسيا بسهولة في المدى القريب عن خدمات فاغنر الخارجية؛ فموسكو تعتمد على فاغنر بشكل كبير، لاستمرار سيطرتها على مناطق النفوذ المضطربة لتقليص النفوذ الغربي، وفاغنر بدورها تعتمد على دعم وزارة الدفاع الروسية، في سوريا وثماني دول أفريقية على الأقل، خصوصا بعد انحسار النفوذ الفرنسي في مالي وأفريقيا الوسطى.

ستعيد الأيام المقبلة صياغة التفاهمات بين بريغوجين من منفاه في بيلاروسيا، وسيده بوتين في الكرملين، وفي ظل التطورات الأخيرة التي شهدتها روسيا، أصبحت الحاجة إلى حلول سلمية لإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية أكثر الحاحا، فتمدد مناطق الصراع إلى الداخل الروسي، ستزيد المشكلة الأصلية تعقيدا، ما سينعكس سلبا على مسارات السلام والاستقرار في العالم.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى