تثير خطوات التيار الصدري الأخيرة، منذ تقديم نواب التيار، البالغ عددهم 73 عضواً، استقالاتهم من البرلمان وتحول الإطار التنسيقي إلى الكتلة البرلمانية الأكبر، توقعات وأسئلة ومخاوف كثيرة.
بدت هذه الاستقالات وكأنها بداية لاعتزال صدري مفتوح عن السياسة يقوده زعيم التيار نفسه الذي أعلنت مصادر صدرية أنه سيدخل اعتكافاً دينياً في سياق هذا الاعتزال المفتوح.
تعزز حسُ الاعتزال هذا بعد يومين من قبول البرلمان العراقي للاستقالات عند لقاء الصدر بنوابه المستقيلين، إذ ظهرَ هذا اللقاء في تخريجته العامة وحديث الصدر فيه على أنه إعلان فراق طويل بين التيار، وزعيمه شخصياً، والسياسة.
ذكر الصدر في هذا اللقاء أنه قرر الانسحاب من العملية السياسية وطلبَ من نوابه التهيؤ لانتخابات مقبلة، يُفترض أن تُعقد في 2025. حمل كلامه طابعَ الختام والوداع والانتظار الطويل المفتوح.
كان كل المشهد يذكر بمغادرة الصدر للسياسة في 2008 بعد تجميده “جيش المهدي”، وذهابه لإيران للدراسة ليعود بعدها بثلاث سنوات إلى حلبة الصراع السياسي، ويواصل قيادة تياره على نحو معلن ومباشر. قادت كل هذه الإشارات الواضحة إلى التوقع المنطقي أن الذي سيعقب لقاء الصدر بنوابه اختفاؤه عن المشهد العام وامتناعه عن الخوض في الشأن السياسي لفترة طويلة قادمة، بانتظار عودته له ذات يوم يبدو بعيداً.
لكن في خلال أيام قلائل عاد الصدر إلى تغريدات سياسية، بضراوة واضحة، عبر حساب “وزير القائد” الذي يُعتقد واسعاً أنه يمثل آراءه المباشرة من دون وساطة آخرين، ليهاجم خصومه الإطاريين ويناقش أسباب انسحابه، فضلاً عن تغريدة من حسابه الخاص يهاجم فيها رئيس الجمهورية برهم صالح.
ثمة شيء تغير بين إعلانات الختام والوداع والعودة في زمن تال بعيد نسبياً، واستئناف إطلاق الآراء السياسية ومهاجمة الخصوم والعتب على الآخرين الذين لم يناصروا التيار بحسب اعتقاد السيد الصدر.
على الأرجح أن السبب وراء هذا التغير أمران مفاجئان ومزعجان لزعيم التيار إلى حد دفعه لكسر قرار اعتزاله المعلن عن السياسة.
السبب الأول هو عقد جلسة البرلمان الطارئة لاستبدال النواب الصدريين المستقيلين، بعد عشرة أيام فقط من قبول استقالاتهم من رئيس البرلمان، السيد محمد الحلبوسي. يبدو أن التيار الصدري تعمَّد تقديم الاستقالات بنهاية الفصل التشريعي الأول، الذي ينبغي أن يكون قد انتهى في التاسع من مايو الماضي لكن تم تمديده بسبب ازدحام الأجندة التشريعية إلى التاسع من شهر يونيو.
بعد انتهاء التمديد، دخل البرلمان عطلة تشريعية ستستمر أقل من شهر هذه المرة (تستمر العطلة العادية الواحدة للبرلمان شهرين، مرتين في العام) قبل أن يستأنف أعماله في الفصل التشريعي الثاني في التاسع من يوليو. في أثناء العطلة التشريعية، لا يجوز عقد جلسة برلمانية إلا لأسباب طارئة تتعلق بالأمن على أساس طلب يقدمه 50 نائباً. قدم نواب إطاريون، معظمهم من دولة القانون، طلباً لعقد مثل هذه الجلسة لغرض مناقشة “الاعتداءات التركية على سيادة العراق” في إشارة للعملية العسكرية التركية في شمال البلاد التي بدأت في 18 أبريل وسبق للبرلمان أن ناقشها في جلسة سابقة. لكن الغرض الحقيقي للجلسة كان تأدية بدلاء النواب الصدريين من الذين جاءوا بالمرتبة الثانية في عدد الأصوات، للقسم البرلماني الذي يجعلهم نواباً برلمانيين بصلاحيات كاملة، وهو ما حصل بالفعل.
أما السبب الثاني للغضب الصدري فهو سماح حليفي التيار الصدري السابقين، تحالف السيادة والحزب الديموقراطي الكردستاني، بانعقاد هذه الجلسة. كان بإمكان رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، الذي يتزعم تحالف السيادة، أن يمنع بسهولة عقد الجلسة في إطار صلاحياته القانونية. كما كان بمقدور نواب السيادة والديموقراطي الكردستاني كسر نصاب الجلسة ومنع انعقادها. لكن الاثنين وافقا على انعقاد الجلسة مع علمهما أن هدفها هو تأدية البدلاء لقسم العضوية البرلمانية، غير أن المشكلة الصدرية هي أساساً مع الإطار التنسيقي فالأخير هو خصمه الحقيقي وليس الأحزاب الكردية والسنية التي دخلت في تحالف الأغلبية معه.
جاءت التغريدة الصدرية الأولى التي كسرت الاعتزال السياسي، بعد يوم من جلسة تأدية قسم البدلاء، عبر حساب “وزير القائد،” محمد صالح العراقي، لتشن هجوماً على “الفاسدين” في إشارة ضمنية لائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه السيد نوري المالكي. ثم توالت التغريدات الصدرية الساخطة على الإطار التنسيقي وحلفائه.
لماذا الانزعاج الصدري من انعقاد جلسة البدلاء وترديد هؤلاء القسم البرلماني، بعد أن قدم النواب الصدريون استقالاتهم من البرلمان؟ الجواب هو أن الاستقالات البرلمانية هي جزء من استراتيجية صدرية أوسع لإجبار الإطار التنسيقي للانصياع للمطالب الصدرية، سواء بالوسائل السياسية والبرلمانية أو عبر ضغط الشارع في حال فشل الأولى.
استخدم الصدر الاستقالات كورقة ضغط كبيرة ضد الإطار التنسيقي، إذ كان خصوم الصدر الإطاريون يشككون بنية الصدر سحب نواب تياره فعلاً من البرلمان وتصوروها مجرد تهديد كلامي، وهي النية التي أعلنها في يوم 11 يونيو ليحولها إلى أمر واقع بعد يومين، بطلبه من رئيس البرلمان ان يوقع طلبات الاستقالة كي تصبح رسمية. لكن في عراق الصفقات وهشاشة القانون، أن يصبح الشيء رسمياً لا يعني أنه سيصبح نهائياً، إذ يُعاد تفسير نصوص القانون كي تنسجم مع الصفقات التي يتفق عليها الساسة.
كان الأمل الصدري هو أن رسمية الاستقالات ستقنع الاطاريين، ومعهم إيران، أن التيار الصدري جاد فعلاً في مغادرة السياسة عبر المؤسسات وممارستها عبر الشارع، بمعنى تحوله إلى خصم شعبي للإطار عبر الشارع واحتمالاته الاحتجاجية الكثيرة التي تقلق الإطاريين وإيران. بالتالي كان التيار الصدري يُعوِّل جزئياً على صفقة ترضية له يأتي بها الإطار وإيران تلبي المطالب الصدرية بحكومة أغلبية سياسية (سبق لإيران أن وافقت على حكومة الأغلبية الصدرية لكن بشروط رفضها الصدر). كان أمام الإثنين، الإطار وإيران، نحو شهر، هي فترة العطلة التشريعية المصغرة هذه المرة، لصياغة صفقة كهذه.
لكن عقد الجلسة الاستثنائية في أثناء العطلة التشريعية كانت الخطوة المقابلة التي تصدرها ائتلاف دولة القانون، لمنع مثل هذه الصفقة، إذ إن قسم البدلاء يجعلهم أعضاءً كاملين في البرلمان، وبالتالي سيصبح من المستحيل عملياً نزع عضويتهم وإعادتها للنواب الصدريين المستقيلين كجزء من صفقة الترضية هذه.
نجح المالكي وبعض حلفائه الإطاريين عبر هذه المناورة البرلمانية الذكية في قطع الطريق على الصدر ومنع احتمالات عقد مثل هذه الصفقة. لكن هذا النجاح التكتيكي لا يلغي حقيقة استراتيجية واضحة ومقلقة للإطار التنسيقي مفادها: صحيح أنه يهيمن على البرلمان الآن، لكن الذين يهيمنون على الشارع هم خصومه: الصدريون والتشرينيون. ويبدو واضحاً أيضاً أن الشارع، وليس البرلمان، هو من سيحسم وجهة السياسة في العراق مستقبلاً.