لم يبدِ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن خلال فترة حكمه أي تحفظ في علاقاته وعلاقات بلاده مع أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة.
يسهل للمراقب أن يلحظ وحدة حال أيديولوجية تجعل من اليميني المتطرف ستيف بانون، الذي كان منظّر دونالد ترامب ومستشاره حين أصبح رئيسا، شديد الإعجاب بالقومي الروسي المتطرف ألكسندر دوغان الذي يعتبر منظّر البوتينية في روسيا.
والواضح أن روسيا التي لم تعد شيوعية تسوّق لأممية الشعوب، باتت في عهد بوتن تنفخ في قومية شوفينية تتحدث عن مجد روسيا وعظمة الروس في العالم، وطبعا في دول الجوار وخصوصا في أوكرانيا. والواضح أيضا أن أثرياء روسيا، الذين يتحلّقون حول الرئيس الروسي ويموّلون برنامج وأجندة صعوده، يمولون أيضا الحركات الشعبوية الغربية التي تلتقي مع روسيا الجديدة في كره الليبرالية والعولمة ومؤسساتها وتسعى لإضعاف وتفكيك الاتحاد الأوروبي.
ويظهر تناقض في مبالغة الرئيس الروسي في الحديث عن “النازيين الجدد” في أوكرانيا مقارنة بالدعم والرعاية التي قدمتها موسكو للأحزاب والتيارات الأوروبية اليمينية المتطرفة، وهي المتناسلة من نازية غابرة. وفي الأيام الأخيرة لم يخفَ حرج هذه التيارات في أوروبا وتحفظها وحتى رفضها لدعم سلوك بوتن في أوكرانيا والتبرؤ من ماض ملتبس جمعها معه. حتى أن مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرّف في فرنسا والمرشحة للانتخابات الرئاسية، والتي لم تحظ قبل سنوات بلقاء دونالد ترامب، راحت هذه الأيام تبرر بصعوبة لقاء كان جمعها قبل سنوات مع بوتن وتتنصل من صورة اللقاء والعلاقة معه.
والحال أنه من حزب الحرية النمساوي انتهاء بحزب البديل الألماني مرورا بفيكتور أوربان في المجر ومارين لوبن وإريك زمور في فرنسا وماتيو سلفيني في إيطاليا وغيرهم في هولندا واليونان واسبانيا، فإن بوتن وجد في تلك التشكّلات نفوذا داخل أوروبا ولم يبد أي رفض للنوستالجيا التي يبدونها بديماغوجية للنازية القديمة. حتى أن إريك زمور، المرشح الشعبوي للانتخابات الرئاسية في فرنسا هذه الأيام، أشاد قبل أسابيع فقط بالمارشال فيليب بيتان الذي تعامل مع الاحتلال النازي رئيسا لما يعرف بـ “حكومة فيشي”.
وسبق أن نشرت الصحافة الأوروبية تقارير عن استفادة اليمين المتطرف الأوروبي من تمويلات روسية، ناهيك مما بات معروفا من تدخل القراصنة الروس في هجمات سيبرانية للتأثير على الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وهو أمر اضطر الرئيس ترامب للاعتراف به والإقرار بتقارير أجهزة المخابرات الأميركية حول الأمر (مع تأكيده أنها لم تؤثر على صحة انتخابه رئيسا). وتتبرم العواصم الأوروبية من هذا التدخل الروسي في الانتخابات في أوروبا، بما في ذلك الاستفتاء عام 2016 في بريطانيا الذي أخرج البلد من الاتحاد الأوروبي.
وما “النازيون الجدد” في أوكرانيا إلا نسخة مكررة لأولئك في أوروبا وأميركا ودول غربية أخرى، الذين يأخذون أشكالا مختلفة في طريقة عملهم ومواقفهم، فيبتعدون عن الخطاب والمظاهر المتطرفة كلما اقتربت تشكلاتهم من البرلمان ولامست العمل الحكومي. وإذا ما حظي اليمين المتطرف بالمكانة الحكومية في دول مثل إيطاليا والنمسا والمجر وغيرها وأفرج عن ودّ للزعيم الروسي، فإن من يصفهم بوتن بـ”النازيين الجدد” لم ينجحوا في الدخول إلى البرلمان في انتخابات عام 2019 في أوكرانيا، وبقي تأثيرهم هامشيا داخل أروقة السلطة في كييف.
وتعتبر ميليشيا “آزوف” التي شكلها الفاشي الأوكراني أندري بيلتسكي أهم واجهات اليمين القومي المتطرف في أوكرانيا. وتؤمن النسخة الأوكرانية من النازية بالتفوق البيولوجي للعرق الأبيض، لكنها في الوقت عينه تنهل من حدث الحرب التي شنتها روسيا لضم شبه جزيرة القرم عام 2014، كما تنهل من أيديولوجية قومية استقلالية عن روسيا وبالتالي عدائية للأوكرانيين من أصول روسية.
غير أن تلك الفرقة هامشية في تمثيلها ولا تعبر ولم تعبر يوما عن الرأي العام الأوكراني الذي، من خلال التظاهر في ساحة maidan في كييف أو من خلال صناديق الاقتراع، أبدى توقاً ليكون جزءا من المنظومة الغربية مزاجا وثقافة وجزءا من أوروبا وامتداداتها الأطلسية مع ما يعنيه ذلك من تمسك بالقيم التي قامت بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، وهي قيّم ما زال “النازيون الجدد” في أوكرانيا يرون بها المرجع والطموح.
وإذا يختلف نازيو أوكرانيا مع بوتن بسبب الخصوصية التاريخية الثقيلة في علاقة أوكرانيا بروسيا، قيصرية كانت أم سوفياتية أو بوتينية، فإن التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا وحتى في الولايات المتحدة وجدت في بوتن الشخصية القوية التي كان يجسدها زعماء يمينيون قدماء مثل هتلر وموسوليني وفرانكو. وجدت به قوة التمسك بالقيم المحافظة التي تهددها أممية اليسار الجديد والعولمة الاجتماعية التي أدخلت قيما باتت في صلب القوانين. كما أن بوتن يمثّل لتلك الجماعات النموذج الوحيد لكيفية محاربة الإسلاموية مستشهدين بجملته الشهيرة عن الشيشان:” سنقتلهم في دورات المياه”.
يبقى أن نازيي أوكرانيا سيتلاشون من خطاب الحرب الذي تعتمده موسكو كلما تمكنت القوات الروسية من بسط سيطرتها على أوكرانيا، ما قد يعيد ترميم الوصل بين موسكو والتيارات الشعبوية في العالم من جديد.