صدر مؤخرا هذا الكتاب الجميل والخلاق، المعنون بـ”التعايش مع التنوع والاختلاف”، للمفكر الأكاديمي الدكتور علي راشد النعيمي، أحد أهم المثقفين العضويين المعاصرين، لا في الإمارات فقط، بل في عموم العالم العربي.
فهو من الرجالات، الذين يصدق فيهم قول المفكر العروبي الكبير عبد الرحمن الكواكبي، “ينبهون الناس ويرفعون الالتباس، يفكرون بعزم ويعملون بحزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون”.
في مقدمة الكتاب يلفت الدكتور “النعيمي” إلى أن قضية قبول الآخر، المختلف عرقيا أو لغويا أو دينيا، كانت ولا تزال من أكبر التحديات، التي تواجه المجتمعات البشرية، وأدت إلى كثير من الحروب والنزاعات بين المجتمعات والدول.
رؤية المؤلف تذكرنا بما قاله الفيلسوف الفرنسي الوجودي الشهير جان بول سارتر: “الآخرون هم الجحيم”، والتي يمكن اعتبارها الأساس الذي انطلقت منه الحروب العالمية بنوع خاص.
لكنه من حسن الطالع، وفي مواجهة هذه الظاهرة الاجتماعية القديمة، والرواية للمؤلف دوما، سعت الدول والمجتمعات الحديثة إلى نشر ثقافة التعايش والتسامح والتعددية.
يأتي كتاب الدكتور “النعيمي” ليلفت الانتباه إلى أنه رغم الجهود التي بُذلت لتعميق ثقافة الحوار والجوار والتعايش المشترك، فإن الطريق لا يزال طويلا، فجرائم العنصرية تتكرر وبصورة أكثر قسوة، وأشد تأثيرا، ولا تزال كراهية الآخر المختلف دينيا أو عرقيا تعانيها الكثير والكثير جدا من المجتمعات والدول.
الكتاب يقدم أربعة فصول من الفكر التسامحي التصالحي، الراقي والرقراق، في محاولة لتأكيد أهمية ومحورية البحث عن مسارات الوفاق، والابتعاد عن مساقات الافتراق بين شعوب الكوكب الأزرق كافة.
الفصل الأول يتناول الدلالات والمعاني للتعايش والتسامح، فيما الثاني يتوقف عند تأصيل مفهوم التعايش ثقافيا، وينتقل بنا الثالث إلى جدلية العلاقة بين التعايش وصناعة الحضارة، فيما الفصل الرابع والأخير حديث عملياتي -إنْ جاز التعبير- يتوقف فيه الكاتب عند النموذج الإماراتي، وما يطلق عليه “مجتمع ما بعد التسامح”.
من أنفع وأرفع ما في رؤية الدكتور “النعيمي” اعتماد الكتاب مفهوم التعايش، مع التركيز على الدلالات العربية الأصلية لمفهوم التسامح للتحرر من الظلال السلبية، التي تركها المصطلح الإنجليزي “Tolerance”، ومن مطالعة صفحات الكتاب يتبين للمرء الجهد البحثي المبذول فيه، بهدف ربط تلك القيمة السامية للتعايش مع التنوع والاختلاف بالجذور الإيمانية والروحية الإسلامية بنوع خاص، ويقدم المؤلف ثلاث وثائق تأسيسية تأصيلية في هذا الإطار.
الوثيقة الأولى هي صحيفة المدينة “دستور المدينة”، ويدهش المرء حين يعلم ما جاء بها من بنود، تصل إلى سبعٍ وأربعين فقرة، كل واحدة منها تمثل قاعدة وركنا من أركان المجتمع، الذي يقوم على التعايش مع احترام الاختلاف والتنوع.
الوثيقة الثانية هي العهدة المحمدية لرهبان دير سانت كاترين، والتي تقدم -بحسب المؤلف- صورة أكثر عمقا وشمولا ودلالة على مدى رسوخ قيمة التسامح واحترام الآخر وتقديس حرية التدين والاعتقاد عند المسلمين، وتقدم كذلك صورة عملية لكيفية تحقيق قيمة التعايش مع المختلفين منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، حين كان العالم يتعامل مع المختلفين والمخالفين بالعنف، والقتل، والطرد، والتهجير.
الوثيقة الثالثة هي العُهدة العمرية لأهل إيلياء “بيت المقدس”، وهي وثيقة مختلفة عن الوثيقتين السابقتين، لأنها تمثل شروط المنتصر في معركة حربية شديدة القسوة عظيمة الخسائر، وعلى الرغم من ذلك فإن المنتصر لم يفرض شروط إذعان وإذلال على المهزومين، بل على العكس فرض لهم شروطا على نفسه وقومه وأتباع دينه، وجعل لهم حقوقا دائمة مستمرة إلى يوم الدين، فكان هو المنتصر عسكريا، وهم المنتصرون إنسانيا.
يعنُّ للقارئ أن يتساءل مع الكاتب: “كيف يمكن لمثل هذه المفاهيم القيمية الإنسانية أن تغير من حال العالم إذا تم تفعيلها في مجتمعاتنا البشرية من جديد وتحويلها من الحالة النظرية إلى الحالة الواقعية، ومن ثم نقلها من بطون الكتب إلى سلوكيات البشر، ومن ثم إلى تجارب المجتمعات؟
حُكما ستكون هذه بمثابة جسر ذهبي يمكن للعالمين العربي والإسلامي أن يقدما من خلاله نماذج جاذبة وناجحة للتعايش مع التنوع والاختلاف.
ولعله من أكثر الأفكار رصانة، تلك التي يتناولها الفصل الثاني في خلاصاته إن جاز التعبير، الإشارة إلى أن ذلك النوع من التعايش يحقق الهدف الأسمى، وهو حياة المصالح المتبادلة ضمن أطر الأخوة الإنسانية، وبعيدا عن نزعات البراجماتية غير المستنيرة، لا سيما أن ميزته الرئيسة عدم فقدان أي طرف خصوصيته وهويته، ودون أن يتنازل عن أي مكون ولو صغير من ثقافته أو من عقيدته وتدينه.
هل من علاقة بين التعايش والحضارة؟
تاريخ الحضارة العربية أفضل جواب، وهو ما يستفيض من حوله الدكتور “النعيمي” في الفصل الثالث ويدلل على صدقية الربط بالتعايش الذي جرى في العصر العباسي، وقد كان أحد أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية، هناك حيث شارك غير المسلمين وغير العرب في تضفير وشائج علمية وإنسانية واجتماعية، وعبر لغات سريانية وفارسية، إنها روح الانفتاح على الآخر مع الاجتهاد الخلاق في السعي الكوني الواحد.
يُحسب للدكتور “النعيمي” في مؤلفه الجديد استخدامه مصطلحًا غير مطروق، إذ لم يتوقف عند الحديث عن دولة الإمارات العربية المتحدة بوصفها دولة تسامح، بل بالنظر إليها من منطلق مجتمع ما بعد التسامح.
صارت الإمارات بحسب سطور الكتاب أيقونة التعايش بين بشر يمثلون جميع الأديان والأجناس والثقافات ولغات الأرض.
من هنا نقول إن الإمارات أضحت رسالة حية وسط عالم مخضب بالكراهية.
لمن نبارك؟ هل للدكتور النعيمي؟
غالب الظن نبارك لكل من يقرأ سطور الكتاب في الحال والاستقبال.