سياسة

العرب ودول الجوار الجغرافي.. تركيا مثالا


“العرب ودول الجوار الجغرافي” هو عنوان كتابي الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في عام ١٩٨٧، ضمن مشروع هام للدراسات المستقبلية تحت اسم “مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي”. المشروع ربما كان أكبر وأكثر المشروعات البحثية في العلوم الاجتماعية شمولا التي عرفها العالم العربي خلال القرن الماضي وحتى الثمانينيات منه.

اشترك في البحث عشرات من الباحثين العرب في مجالات متعددة، وكان واجبهم البحث في حركة الواقع العربي في اتجاه ثلاثة مشاهد (سيناريوهات): استمرار الأمر الواقع العربي كما كان عليه من تجزئة في ذلك الوقت، ووجود درجات من التعاون والتنسيق العربي، وفي ظل دولة فيدرالية عربية واحدة. كان على المشروع أن يدرس في ظل هذه المشاهد علاقة العرب مع العالم، والتنمية العربية، وعلاقات الدولة والمجتمع.

كان نصيبي من هذا المشروع كتابان: العرب ومستقبل النظام العالمي، والعرب ودول الجوار الجغرافي. ولا توجد نية هنا لعرض هذا الكتاب الأخير، وتفاصيله الكثيرة، ولكن ما يهمنا هنا هو أنه كان رؤية مبكرة لضرورة تكوين نظرية استراتيجية لتعامل الدول العربية مع جيرانها والذين جري تحديدهم بأنهم: إيران وتركيا وإثيوبيا وإسرائيل. ولما كانت علاقة العرب مع إسرائيل لم تكن في ذلك الوقت، أو في إطار مصطلحات مركز دراسات الوحدة العربية تدخل في إطار “الجيرة” اللهم إلا إذا ما تحقق السلام وحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة. ولذلك استقر الأمر على فصل تفاعلات العرب مع إسرائيل حربا وسلاما في دراسة مستقلة قام بها د. أسامة الغزالي حرب، بينما اهتم كتابي بالدول الثلاث الأخرى. وفي الواقع فإن إسرائيل كان لديها منذ الخمسينيات نظرية متكاملة للتعامل مع الجوار الجغرافي للدول العربية تقوم على استغلال العلاقات مع الدول، والتفاعلات الواقعة مع الأقليات من أجل تكوين حزام ضاغط على الدول العربية من خارجها.

ولكن هذه قصة أخرى، وما يهمنا هنا علاقات الجوار دائما ما كانت جزءا من نظرية العلاقات الدولية في عمومها، وضمن هذا الإطار قامت علاقات تبعية بين الجيران إذا ما كانت موازين القوى مختلة لصالح طرف بعينه، وعداء عندما كان التوازن بدرجة أو بأخرى متكافئا أو أقرب إلى التكافؤ، أو تعاونيا يصل إلى حد التكامل والوحدة كما حدث في إطار التجربة الأوروبية. وفي العموم فإن ما يحكم علاقات الجوار هو الجغرافية السياسية، والتكوين القومي، وتوازن القوى، ودرجة الاعتماد المتبادل.

وفي الواقع فإن حقيقة “الجوار” خلقت تاريخيا علاقات طويلة وكثيفة سياسيا واقتصاديا بين الكيانات السياسية المختلفة في المنطقة قبل وجود الدول الحديثة التي نعيش في ظلها الآن. ومع العلاقات كانت هناك تداخلات ديموغرافية وحضارية ودينية بأشكال مختلفة، زادها تعقيدا في العصر الحديث التداخل مع الغزوات الاستعمارية الخارجية. وفي العموم فإن العالم العربي كان دائما محاطا بثلاثة هضاب تاريخية تكونت على واحدة منها القومية الفارسية، والثانية هضبة الأناضول التي تكونت عليها القومية التركية (العثمانية)، والثالثة الهضبة الإثيوبية التي وضعت على هضابها الأقلية “الأمهرية” بذور قومية إثيوبية لا تزال في طور التكوين المتعدد الأعراق. القوميات الثلاث لعبت تاريخيا أدوارا مختلفة.

تركيا ضمن هذا الإطار ارتبط تاريخها عدائيا بالتاريخ العربي، حينما تجمعت على هضبة الأناضول مجموعة من القبائل التركية القادمة من وسط آسيا ومنها أخذت في الوثوب على ما جاورها مرة في القرن التاسع الميلادي، عندما دخل أفرادها إلى بغداد كفئة من المحاربين العبيد للدولة العباسية؛ ومرة في منتصف القرن الحادي عشر عندما بدأت عمليات الزحف غربا حتى الوصول إلى القسطنطينية عام ١٤٥٣م، ومن بعدها بدأ التوسع جنوبا إلى العالم العربي، وغربا إلى شرق أوروبا. هذا التاريخ القائم على الغزو العسكري والاختلاط مع شعوب وأمم أخرى وضع جذور ثلاثة أنواع من الروابط أو الهويات: التركية، والعثمانية، والإسلامية. الأولى ما بين الدول الناطقة باللغة التركية في وسط آسيا، والثانية تمثل الرابطة الاستعمارية بين دول ومناطق انضوت تحت رداء الإمبراطورية العثمانية بين القرنين السادس عشر والقرن العشرين، والثالثة شملت كل الدول التي شاركت تركيا الديانة الإسلامية والعضوية في منظمة التعاون الإسلامي. وبينما جعلت القومية الأولى تركيا تتطلع إلى منطقة وسط آسيا، فإن الثانية جعلتها تنظر بأطماع شتى إلى الدول العربية، فإن الثالثة أعطت تركيا الرغبة في زعامة العالم الإسلامي كله.

التاريخ التركي المعاصر خلق صدامات مختلفة بين الهويات الثلاث، وزاد عليها الثورة “الأتاتوركية” التي قطعت ما بين تركيا والخلافة العثمانية، وبينها وبين الحروف العربية، وما نجم عنها من علمانية، وتوجه نحو الغرب سواء كان بالعضوية في حلف الأطلنطي أو بالسعي الذليل لدخول الجماعة الأوروبية والاتحاد الأوروبي.

العقدان الأخيران من التاريخ التركي شهدا انقلابين هامين في الحياة السياسية التركية: أولهما أن الأحزاب السياسية ذات التوجه الإسلامي دانت اعتبارا من عام ٢٠٠٠ لحزب العدالة والتنمية الذي أعلن بقوة عن الرغبة في أن تكون تركيا جزءا من الغرب؛ ومن ثم باتت على استعداد لتطبيق كافة شروط الاتحاد الأوروبي حتى سبقت في التطبيق العديد من الدول الأوروبية التي تحررت من عباءة الاتحاد السوفيتي مثل رومانيا وبلغاريا، واستعدادها للتعايش السلمي مع كافة جيرانها أو ما أسماها وزير الخارجية التركي داود أوغلو “صفر صراع”. وعلى مدى عقد كامل من السنوات عاشت تركيا في حالة من “الكمون الاستراتيجي”، مارست فيها إلى أقصى حد الاستفادة من علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي، اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا وبالطبع عسكريا، حتى باتت تركيا عضوا في جماعة العشرين، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والدولة السابعة عشر الصناعية في العالم.

وثانيهما كان التراجع عن الجري وراء الهوية الأوروبية، والتبني الكامل للعثمانية “الجديدة” ليس كما أرادها داود أوغلو وإنما كما أرادها طيب أردوغان، الذي وجد فرصة تاريخية ممثلة فيما سمي بالربيع العربي، والوهن الأوروبي الذي تمثل في الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والرخاوة الدولية التي تمثلت في تراجع القوة الأمريكية خاصة بعد انتخاب دونالد ترامب ونزوعه للانسحاب من الشرق الأوسط. وهكذا بدأ في استخدام عناصر القوة التركية في التدخل العسكري في العراق وسوريا ومؤخرا في ليبيا، وإقامة قواعد عسكرية في القرن الأفريقي، والتمدد البحري في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، والتدخل في الصراع العسكري بين أذربيجان وأرمينيا، والسعي العسكري للتدمير الجماعات الكردية القريبة من الحدود التركية، والادعاء عالميا بأنه الممثل “الحقيقي” للعالم الإسلامي، سواء كان هذا الادعاء لجذب روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية.

ما أعطى أردوغان الفرصة لهذا التمدد الاستراتيجي الكبير هو حالة الخلل في توازن القوى بين تركيا والدول العربية في الجنوب، وليس سرا على أحد أن كلا من العراق وسوريا فقدا الكثير من عناصر قوتهما، كما أن تركيا نجحت إلى حد كبير في تحييد العلاقة مع إيران من خلال العلاقات في سوريا والعراق، وكذلك تحييد إسرائيل مرة بالصداقة والعلاقات الطيبة، ومرة بادعاء التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني. مواجهة تركيا عربيا، مثله مثل الحال في كل علاقات الجوار الجغرافي الأخرى، تحتاج تصحيحا لتوازنات القوى العربية التركية، وإدارة استراتيجية للتناقضات تأخذ في الاعتبار طموحات وأطماع كل دول الجوار. ما لم يحدث ذلك فإن مشهد “التجزئة” الذي قام عليه البحث في المشروع المشار إليه في مطلع المقال سوف يصل إلى أسوأ نتائجه.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى