سياسة

العراق ورقة خاسرة في الصراع الأميركي – الإيراني


هل تتخلى إيران عن الميليشيات في العراق مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها؟
ذلك سؤال فيه شيء من السذاجة، غير أن إيران تحاول أن تروج له. فالعراق الذي بات مستعمرة لها منذ تأسيس “الحشد الشعبي” عام 2014 لم يعد التخلي عنه رسمياً ليعني بالنسبة إليها منحه الاستقلال والسيادة.

هذا على الجانب الإيراني، أما على الجانب الأميركي، فقد صار واضحاً أن إيران لم تعد قادرة على تمويل ميليشياتها الولائية التي وجدت في اندماجها الشكلي بالمؤسسة العسكرية وسيلة للتمويل حيث تقوم الدولة العراقية بتخصيص جزء كبير من ميزانيتها المتهالكة لـ”الحشد الشعبي” من غير التدقيق بحقيقة الأرقام التي تُقدم من زعماء الميليشيات وهي كما يُشاع أرقام مبالغ فيها ولا تمثل الواقع.

وهكذا فإن فك الارتباط التمويلي بين إيران وميليشياتها قد حدث فعلاً. لن تكون تلك الفقرة شرطاً في المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة إذا ما جرت. فالإدارة الأميركية التي سيقودها جو بايدن ستكون ممتنة للجهود العظيمة التي بذلتها إدارة الرئيس دونالد ترامب وإلى ترامب شخصياً. فمن غير تلك الجهود التي قاومتها دول عديدة ما كان لإيران أن تكف عن نشر أسلحتها في العراق ولبنان واليمن وسوريا. غير أن الوضع في العراق يظل هو الأكثر تعقيداً والتباساً وخطورة.

فالعراق بلد ثري. في أوقات سابقة كان من الطبيعي أن يذهب جزء من تلك الثروة إلى إيران.
ما كان ذلك ليحدث لولا الدعم الإيراني الكبير الذي تلقته الميليشيات الشيعية في عمليات التصفية الطائفية التي شهدها العراق بين عامي 2006 و2007 وهي التي مهدت لعهد نوري المالكي “ثماني سنوات من الحكم المطلق” الذي شهد أكبر عملية لتهريب العملة الصعبة من العراق إلى إيران.

ولأن نوري المالكي قد اعتمد يومها سياسة احتل المشروع العقائدي فيها مكانة أعلى من المكانة التي احتلها مشروع إعادة بناء الدولة التي دمرها الأميركيون، فقد كان تسرّب الأموال إلى إيران يتم بطريقة غير أصولية وهو ما يجعل الأرقام التي تشير إلى الأموال التي تصرف بها المالكي خارج سلطة القانون صادمة وفجائعية.

ذلك ما أسس لما يمكن أن يُسمى بـ”سلطة الفساد المطلق” وهو فساد شمولي لا يتعلق بحالة بعينها ويتجاوز مفهومي الزمان والمكان. فما فعله المالكي تحت شعار “الدفاع عن المذهب” صار يجد صوره المتعددة والمكررة في مفاصل الدولة التي تفتقد إلى أي نوع من أنواع السلطة الرقابية. ومن ذلك الباب دخل الفساد إلى مجلس النواب، الذي هو أكبر سلطة تشريعية ورقابية في الدولة والتي قُدر لها أن تكون حاضنة للفساد ومنها يستمد الفاسدون حصانتهم في وجه القانون.

اما حين أُجبر نوري المالكي على التخلي عن الحكم عام 2014 بناء على تسوية أميركية إيرانية وبعد أن تسببت سياساته في هزيمة الجيش العراقي أمام التنظيم الإرهابي “داعش” قبل أن تقع المعركة، فقد كانت الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية قد حُسمت لصالح إيران من خلال قناتين كانتا تمران بالدولة العراقية من غير أن تكونا جزءاً منها، هما “الحشد الشعبي” الذي تم من خلال إضفاء الشرعية على الميليشيات التي كان تمويلها يشكل عبئاً على الخزانة الإيرانية و”الدولة العميقة” التي عمل المالكي عبر ثماني سنوات على إقامتها والتي تُدار بطريقة سرية من قبل أعضاء في حزب الدعوة الذين لم يؤثر استبعاد بعضهم عن الإدارة المباشرة على قوة نفوذهم والنسيج الخفي الذي يديرون من خلاله عمليات الفساد المالي.

لم تضعف الهيمنة الإيرانية على العراق مع انهيار سلطة المالكي بل حدث العكس تماماً إذ قويت تلك الهيمنة وذهبت إلى الهوامش التي تشظت قوة المركز فيها وبات ذلك المركز الذي استبعد المالكي منه ضعيفاً ومترهلاً وبدا عاجزاً عن تعويض خساراته.

ما ربحته إيران يومها خسرته الدولة العراقية. ذلك ما أسس لمعادلة العلاقة بين الطرفين. إيران الرابحة والعراق الخاسر. ولم تعد إيران في حاجة إلى التدخل في شكل مباشر إلا حين تشعر باضطراب ما في تلك المعادلة. كانت زيارات قاسم سليماني زعيم فيلق القدس السابق كفيلة بإنهاء أي اضطراب يحدث.

وبعد مقتل سليماني لم يتغير شيء على ذلك الصعيد. ما تغير له علاقة بالضبط التنظيمي داخل “الحشد” والخطط التي يُراد منها تمتين الصلة بين الميليشيات الموالية لإيران في مختلف نقاط تواجدها في لبنان وسوريا والعراق، ما يعني أن قنوات الاتصال بين ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً تسمية “العراق الشيعي” وهو عراق الحكم وإيران، ظلت مفتوحة.

لذلك ليس مستبعداً أن تقوم إيران بخطوة سيُنظر إليها على أنها نوع من التنازل من أجل استرضاء الحكومة الأميركية الجديدة. تلك الخطوة يمكن تلخصيها بالتخلي عن العراق باعتباره الجزء الأهم من منظومة هيمنتها على المنطقة.

ولكن هل ستكون تلك الخطوة مقنعة للطرف الأميركي لكي يستأنف علاقة كانت قد انقطعت مع انسحاب الإدارة الأميركية السابقة من الاتفاق النووي؟

ستكون بداية سيئة لعهد الرئيس بايدن إن جرت الأمور مثلما تريد إيران. غير أنه لا أحد في إمكانه أن يضمن أن الأميركيين لن يدخلوا إلى اللعبة إلا مخادعين مثلما يفعل الإيرانيون تماماً.

ذلك يعني أن العراق سيشهد مزيداً من فصول لعبة الشد والحل الأميركية الإيرانية بما يبقيه في حالة توتر وانهاك في انتظار انتهاء التجاذبات التي قد لا تبقي من مقومات وجوده الايجابية شيئاً.

* نقلا عن “النهار

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى