سياسة

الصدر الغائب-الحاضر.. إعادة تشكيل إيقاع الحراك الشيعي


يقدّم مقتدى الصدر زعيم التيار الوطني الشيعي (الصدري سابقا) نموذجا فريدا لـ”الحضور بالغياب”، حيث يواصل التأثير في المشهد الشيعي من دون العودة رسميًا إلى السياسة أو الانخراط المباشر في الصراع الدائر بين القوى المتنافسة. فخطواته المحسوبة من الدعوات التعبوية إلى التراجع المنضبط، تعكس قدرة على إعادة ضبط إيقاع الحراك الشيعي عبر رسائل غير مباشرة لكنها عالية التأثير.

وهذا الحضور الرمزي الذي لا يحتاج إلى وجود ميداني دائم، يذكّر الجميع بأن التيار الصدري ما زال يمتلك مفاتيح الشارع وأوراق القوة، وأنه قادر على إعادة توجيه المزاج السياسي في اللحظة التي يختارها. وهكذا يصبح غياب الصدر أداة بحدّ ذاتها، تُربك خصومه وتُبقي توازنات الساحة معلّقة على قراره المقبل.

وأعلن الصدر في تدوينة على حسابه الرسمي بفيسبوك تأجيل إقامة “صلاة الجمعة الموحدة” التي كان قد دعا إليها في محافظة بابل، بعد أيام فقط من تعبئة جماهيره نحو “تجمّع مليونـي يرهب الأعداء”، في خطوة تحمل أكثر من تفسير في سياقاتها السياسية وفي إطار ما يمكن اعتباره سياسات المناورات للبقاء في دائرة الضوء ولجس نبض خصومه من البيت الشيعي.

ورغم أن الصدر قدّم مبررات دينية واجتماعية ومناخية للتأجيل تتعلق بـ”البرودة والودق والغيث”، فإن القراءة السياسية لخطوته تكشف عن مناورة محسوبة تُبقي التيار في موقع الاستعداد، من دون الدخول في اختبار قوة أو صدام مباشر مع خصومه.

والدعوة الأولى التي أطلقها الصدر قبل أيام حملت بوضوح رسائل سياسية تتجاوز بعدها الديني، إذ اختار محافظة بابل لإقامة الصلاة الموحّدة بدل المدن التقليدية للتيار، في خطوة فهمت على أنها محاولة لمدّ النفوذ إلى مناطق تُعدّ امتدادًا طبيعيًا للإطار التنسيقي. كما جاءت العبارة التي استخدمها الصدر “تجمعا مليونيا يرهب الأعداء” لتؤكد أن النشاط لم يكن مجرد شعيرة دينية، بل رسالة تعبئة تنظيمية واستعراض قوة لحجم التيار وتأثيره.

غير أن الدعوة لم تدم طويلا، إذ عاد الصدر بعد يومين ليعلن تأجيل الصلاة، مستندا إلى مبرّرات تتعلق بسلامة المصلّين وظروف الطقس. وبغض النظر عن صدقية السبب أو عدمها، فإن الصياغة العاطفية التي قدّمها زعيم التيار تكشف عن رغبة في الحفاظ على الحماس الجماهيري دون فقدانه، وفي الوقت نفسه تجنّب أي انطباع بوجود تراجع أو تردّد، فالصدر قدّم التأجيل بوصفه قرارًا رحيمًا “يشفق” فيه على أتباعه، لا إجراءً فرضته حسابات سياسية معقّدة.

وتشير مصادر متابعة للحراك الصدري إلى أن الدعوة للصلاة الموحدة لم تكن فعالية عفوية، بل اختبارًا لردّ الفعل الجماهيري وقدرة التيار على الحشد السريع خارج مناطقه التقليدية. فعودة الصدر إلى أدوات الحشد الديني بعد أشهر من السكون السياسي تؤكد أن التيار يسعى إلى إعادة ترسيم حضوره في المشهد، خاصة في ظل تحوّلات داخل الإطار التنسيقي وصراع الأجنحة، فضلاً عن التحديات التي تواجه حكومة بغداد ومحاولاتها تحقيق توازنات دقيقة بين القوى الشيعية.

أما اختيار بابل تحديدًا، فيُقرأ في ضوء تنافس رمزي على الفضاء السياسي الشيعي. فهذه المحافظة تجمع بين موقعها الجغرافي الحساس وخصوصيتها الديموغرافية، ما يجعلها ساحة مثالية لإظهار مدى النفوذ الشعبي لأي قوة تريد إثبات حضورها. وبذلك، فإن قرار الصدر يُفهم على أنه محاولة لتوجيه رسالة مزدوجة: الأولى إلى خصومه السياسيين بأنه قادر على الحشد أينما يشاء، والثانية إلى جمهوره بأنه ما زال صاحب اليد العليا في قيادة الشارع الشيعي.

في المقابل، قد يشير التأجيل إلى قراءة مغايرة داخل التيار الصدري نفسه، فالتعبئة لمناسبة مليونية في بابل خلال فترة قصيرة قد تكون حملت مخاطر تنظيمية وأمنية كبيرة، خاصة في ظل حساسية العلاقة بين التيار والإطار. وبالتالي، فإن التأجيل قد يكون قرارا وقائيا لتفادي أي احتكاك أو سوء تقدير قد يدفع الأوضاع نحو مواجهة غير محسوبة.

ورغم التراجع الظاهري، لم يتخلّ الصدر عن المضامين الرمزية التي أراد تثبيتها، فقد ربط الدعوة للصلاة بدماء الأسرة الصدرية وبـ”الحوزة الناطقة”، وهو خطاب يهدف إلى تجديد الشرعية الدينية والسياسية لقيادته. كما أن تأكيده على أن “الأعمال بالنيات” محاولة واضحة لإبقاء الحشد في حالة جهوزية نفسية، باعتبار أن تأجيل الفعل لا يعني إلغاءه، بل إعادة جدولته وفق توقيت أكثر ملاءمة للتيار.

وفي السياق الأوسع، تأتي هذه الخطوة في لحظة سياسية حرجة يشهد فيها العراق احتدامًا صامتًا بين القوى الشيعية، وتراجعًا في قدرة الحكومة على ضبط إيقاعات النفوذ الداخلي، فضلاً عن الانتظار لما قد تحمله سنة 2026 من استحقاقات سياسية وأمنية. وبذلك، فإن حركة الصدر تبدو جزءًا من سياسة “الحضور المعلّق”: إظهار القدرة على التحرك الجماهيري من دون استخدامه، والتذكير بأن التيار ما زال رقمًا صعبًا مهما ابتعد عن العمل السياسي الرسمي.

وبين الدعوة والتأجيل، يقدّم الصدر نموذجًا مألوفًا في سلوكه السياسي: رفع مستوى التعبئة ثم تجميدها في اللحظة التي يرى أنها غير مناسبة. إنها مناورة تمنحه القدرة على اختبار ردود الفعل، وقياس حجم القوة في الميدان، وإبقاء خصومه في حالة ترقّب دائم، من دون أن يورّط نفسه في مواجهة مباشرة لا يريدها الآن.

وهكذا، يبقى موقف الصدر الأخير علامة على أن التيار الصدري ما زال يحتفظ بأدوات التأثير الأكثر حساسية: الشارع، والرمزية الدينية، والقدرة على تحويل المناسبات الدينية إلى رسائل سياسية واضحة. أما توقيت استثمار هذه القوة، فذلك يظل ورقة بيده وحده.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى