الجزائر ومصر أمام الجار التركي الجديد.. أي حدود للانزعاج
لم يمر أكثر من ستة أشهر على الاتفاق مع حكومة فايز السراج الذي يفتح الباب أمام تدخلها العسكري في ليبيا حتى قلبت تركيا موازين الحرب تكتيكيا ضد قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر. لكن الأخطر أنها غيرت اللعبة الإستراتيجية في شمال أفريقيا وسط ذهول جزائري ومصري، ما قد يدفع البلدين إلى التحرك بأي شكل لإظهار انزعاجهما من الجار التركي الجديد على الحدود.
ولا يمكن النظر إلى سيطرة تركيا على قاعدة الوطية الإستراتيجية (غرب ليبيا) على أنها مجرد عملية استخبارات محدودة حسمتها أنقرة من خلال الطائرات المسيرة؛ إنّما الأمر أكبر من ذلك، فما حدث أفضى إلى تحصيل تركيا مواقعَ نفوذ إستراتيجية في شمال أفريقيا تمكّنها من أن تمثل تهديدا لأمن دول مثل الجزائر وتونس ومصر والسودان.
وأجمع محللون على أن دول المنطقة تعاملت مع التدخل التركي ببرود غير مفهوم وسّع من فكرة تسويق أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستهدف بإرساله الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا تحجيم دور المشير خليفة حفتر، دون وعي بأن السيطرة التركية ستفرض واقعا جديدا على ليبيا وعلى دول المنطقة بالإضافة إلى الدول الأوروبية المتدخّلة في الملف الليبي.
وأشار هؤلاء إلى أن خطط الرئيس التركي لوضع اليد على النفط الليبي والتحكم في السواحل الليبية الممتدة ستمس من مصالح تلك الدول وأمنها وأمن الملاحة الدولية، فضلا عن بناء منصة متقدمة لتجسيد حلم استعادة الإمبراطورية العثمانية، لافتين إلى أن الاكتفاء بالمناوشة الكلامية واللجوء إلى الضغوط الدبلوماسية على أنقرة لن يغيّرا الوضع على الأرض، كما هو الأمر الواضح في تجربة التدخل التركي في سوريا واضطرار الدول الكبرى إلى القبول به كأمر واقع.
وإلى حد الآن اكتفت مصر بعد سقوط قاعدة الوطية بالإعلان عن أن الرئيس عبدالفتاح السيسي عقد اجتماعا عاجلا، الاثنين، مع وزير الدفاع الفريق محمد زكي، أكد فيه على ضرورة أن تستمر القوات المسلحة على جاهزيتها المرتفعة، وهو ما اعتبره البعض رسالة رمزية لإظهار عدم قبول القاهرة بالتحولات على الأرض، لكن لا يمكن التنبؤ بما وراء ذلك.
وعلمت “العرب” من مصادر مصرية متعددة أن الخيار العسكري في ليبيا غير مطروح بالمرة، حتى الآن، والقاهرة لن تنزلق إلى الدخول في حرب غير معروفة النتائج في الجارة الغربية، خاصة في ظل تعقيدات التركيبة القبلية في ليبيا.
وأكدت المصادر التي تحدثت إليها “العرب” أن سقوط قاعدة الوطية، ومن قبلها بعض المدن الساحلية في غرب ليبيا، ستكون له تأثيرات على وجود قوات الجيش الليبي في طرابلس، وقد تغري هذه الانتصارات تركيا بالمزيد من التمدد للسيطرة على قاعدة الجفرة ذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، مشيرة إلى أن مصر لم تكن مرحبة بخطوة المشير حفتر دخول طرابلس، وأنها حذرت مبكرا من صعوبتها الجغرافية والعسكرية.
ويسود اعتقاد واسع في أن مصر لن تلجأ إلى المواجهة العسكرية إلا إذا طال التحرش التركي أراضيها أو مصالحها المباشرة خاصة على مستوى الملاحة الدولية ومرور السفن باتجاه قناة السويس. عدا ذلك، فإن القاهرة ستظل تضغط دبلوماسيا على تركيا لدفعها إلى الانسحاب مستفيدة من غياب أي مقبولية للتدخل التركي في المحيط الإقليمي أو في المؤسسات الدولية التي تعنى بالأمن والسلام، وأن إنضاج حل سياسي شامل في ليبيا سيجبر الأتراك على التراجع وفقدان أي مشروعية لوجودهم في المنطقة الغربية.
وذكرت مصادر مصرية لـ“العرب” أن معركة تركيا ليست مع مصر، بل مع القوى الدولية التي دعمت إسقاط نظام معمر القذافي لتحقيق مصالحها مثل إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة، وهي دول لن تقبل بتمركز إستراتيجي تركي يتحكم في مياه المتوسط ويحول الوجود في ليبيا إلى ورقة ضغط وابتزاز.
ويهدد الوجود العسكري التركي عبر التمركز في قاعدة الوطية أو في السواحل الليبية، دول جنوب أوروبا المطلة على البحر المتوسط، في ظل مخاوف واسعة من تنسيق روسي – تركي في ليبيا. كما يهدد الأمن القومي لدول شمال أفريقيا المحاذية للغرب الليبي، وخاصة الجزائر التي لن تكتفي بالصمت حيال تمركز تركي في منطقة تعتقد أنها تمثل عمقا لأمنها، حيث تقيم الجزائر علاقات متقدمة أمنيا واقتصاديا مع فعاليات قبلية واجتماعية في المنطقة الحدودية.
وسبق للرئيس الجزائري الجديد عبدالمجيد تبون أن أكد في أكثر من مرة أنه لا يمكن الحديث عن حل في ليبيا يستثني مصالح الجزائر، ما يعني أن الجزائر ستجد نفسها مجبرة على صدام عاجل أم آجل مع تركيا لحماية أمنها القومي.
وقال مراقبون جزائريون إن التعديلات الدستورية التي تهدف إلى تحرير الجيش الجزائري من قوانين قديمة تمنعه من لعب أدوار خارجية قد تكون بمثابة فرصة ذهبية للجزائر من أجل التحرك بحرية لحماية أمنها القومي بما في ذلك داخل العمق الليبي، حيث يتمركز الجيش التركي والميليشيات الحليفة التي تعادي الأنظمة المستقرة في المنطقة.
ويدفع الوضع الأمني المتدهور في ليبيا، بعد دخول الجيش التركي على خط الصراع الداخلي، باتجاه تبرير التحول المنتظر في واحد من أبرز الثوابت الدبلوماسية والسياسية للجزائر، والمتصلة بموقع ودور المؤسسة العسكرية الجزائرية في الصراعات الإقليمية المستعرة.
ويشير مراقبون إلى أن المستجدات على الأرض في ليبيا، خاصة بعد التدخل التركي واختراقه السيادةَ الليبية تحت مسمى الاتفاق مع حكومة السراج، تعزز فرضية المقترحات المقدمة من طرف المشرع الجزائري، بخصوص مهام الجيش في المرحلة القادمة.
وكان تبون قد تحدث في أول تواصل له مع الجزائريين، بعد انتخابه في ديسمبر الماضي، عن أن “بلاده لن تبقى مكتوفة الأيدي بشأن الوضع على حدودها الشرقية والجنوبية”، في إشارة إلى الأزمتين الليبية والمالية.
ورغم أن الانزعاج الجزائري قد لا يخرج في الفترة الحالية عن كونه مجرد تصريحات، خاصة في ظل تسويق سابق لعلاقات متطورة مع تركيا، وفي ظل تأثير قوي للإسلاميين على القرار الرسمي، من ذلك مثلا تعمد الاحتفاء بالتاريخ العثماني، فإن الجزائر ستكون مضطرة إلى الخروج عن المجاملة والحياد في ظل تزايد المؤشرات على خطر الوجود التركي على أمن البلاد، سواء من الجانب الاستخباري أو من جانب استخدام الإسلاميين في محاولات تطويع السلطة للقبول بالوجود التركي كأمر واقع، وهو ما يتعارض مع روح الثورة الجزائرية المعادية للاستعمار بمختلف أشكاله وألوانه.
يشار إلى أن خطط تغيير عقيدة الجيش الجزائري تهدف بالأساس إلى لعب أدوار متقدمة في ليبيا ومالي للحفاظ على مصالح الجزائر في ضوء تعدد الجهات الأجنبية اللاعبة قريبا من الحدود الجزائرية، ما يزيد من فرضية صدام المصالح مع تركيا، وهو صدام قد يأخذ أبعادا متعددة قد تصل على المدى البعيد إلى المواجهة المباشرة.
عن “العرب” اللندنية