الأسبوع الأخير قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع في 29 الشهر الحالي لحسم وصول خمسين نائباً لمجلس الأمة في الكويت من أكثر من 370 مرشحاً، يحتدم النقاش، ويصل إلى قمته في الأسبوع الأخير الذي تتغير فيه التحالفات. في الكويت تسمى العملية الانتخابية «معركة انتخابية» وفي أماكن أخرى تسمى «حملة انتخابية»، وعلى الرغم من أن المفهومين متقاربان، فإن السخونة في الأولى هي الأكثر حضوراً. تهيأ لي أن أزور في الأيام الأخيرة من «المعركة» بعض «الحجرات الخلفية» لبعض المرشحين، وتبين لي كم هو الفارق مما كانت تقوم عليه المعارك السياسية السابقة، وطريقة العمل في «الحجرات الخلفية» اليوم.
في السابق كانت «ماكينات» المرشح أو «حجراته الخلفية» تتم في الديوانية أو في خيمة متواضعة وتعتمد على العلاقات «الوجه بالوجه» وعلى الندوات العامة التي يكثفها المرشح في الأسابيع الأخيرة من الحملة، كما تعتمد على القوى «الاجتماعية» التقليدية. من جانب آخر، يعتمد على الصحافة، سواء كان ذلك إعلاناً أو تغطية مجانية، وعدد الصور التي تنشرها الصحف للمرشح، أما ما يعرف بـ«المفاتيح الانتخابية» فقد كانت قليلة، وكانت الندوات الجماهيرية هي الأساس في الإشهار، يحضرها الجميع للاستماع إلى طروحات المرشح، ولا تخلو من مشاغبات. في سبعينات القرن الماضي وبعدها، كان عدد «المشاغبين» محدوداً. كان هؤلاء يحضرون إلى الندوة، يأخذون مكاناً بارزاً ثم يتحدثون مهاجمين المرشح بكلام «مفتقد المحتوى»، وكثير من مواقفهم يمكن تفسيرها بما يعرف في علم النفس الاجتماعي «اضطراب هوس الشهرة» لأنه في اليوم التالي يجد صورته منشورة، بعضهم يدعي «أن ما قاله المرشح هو من أفكاره» ويطلب منه الاعتذار علناً عن تلك «السرقة»!
كان البعض ينظر إلى تلك الظاهرة على أنها «ملح الحملات الانتخابية» ومصدر للتندر والفكاهة، على ما تحمل من ضيق للمرشح في وقتها. «هوس الشهرة» كان يلازم بعض الأشخاص من خلال إعادة ترشيح أنفسهم في الانتخابات تكراراً وقد يحققون في كل مرة فقط أصواتاً متواضعة لا تتعدى أصابع اليدين، ومع ذلك يصرّون على الترشح من جديد في ظاهرة لا يمكن أن تخرج إلا عن «هوس الشهرة»!
ذلك في زمن مضى، بعض تلك المظاهر لا تزال ملازمة للحملات الانتخابية في الكويت وقد تطورت الأمور منذ ذلك الزمن. قلت إن الفرصة واتتني لأن أزور بعض «الحجرات الخلفية» لدى مرشحي الجيل الجديد ووجدت مجاميع صغيرة، بين 10 و20 شاباً أمامهم أجهزة الكومبيوتر المتنقلة، والتليفونات الحديثة يركّزون على قوائم أسماء، جمعها عدد أكبر منهم في الخارج، عادة يسمون «المفاتيح الانتخابية»، هذه المرة في مقرات مكيفة فسيحة، غير تلك الخيم الصغيرة أو الديوانيات الخاصة. لهذا الفريق قائد شاب يتابع مع كل فرد من المجموعة تقارير «المفاتيح» التي بحوزته، وعدد الأصوات «المضمونة» للمرشح وكيف أنها صعدت أو تراجعت بعد تصريح ما أو ندوة قام بها المرشح، وكيف يمكن فرز «المؤكد» من «المحتمل»، في الوقت نفسه وبالعدد نفسه تقريباً مجموعة من الفتيات والنساء بالطريقة نفسها مع الأجهزة الحديثة، ينظرن في الصوت النسائي في الدائرة… عمل منظم تقني وحديث.
المشهد تغير تماماً، غيّره الجيل الجديد، وغيّره التفاعل مع الثورة الرقمية التي تجتاح العالم والمتطلبات الانتخابية في عصر متغير. انتقل الثقل «الإعلاني والإعلامي» من الصحف إلى وسائل الإعلام الحديثة، ولم يعد للصحف ذلك التأثير السابق في الرأي العام، أو تحظى بنصيب إعلاني كبير، لقد تبدل الوضع الإعلاني إلى «الوسائل الحديثة» بأشكالها المختلفة، فأصبحت «المشاغبة» تقنية، كمثل تأجير «المشاهير»، خاصة في المناطق الانتخابية المختلطة (أي الخارجة عن سيطرة اللون الواحد الطائفي أو القبلي) والتي تحتوى على ناخبين (رجال ونساء) متعلمين ومتعددي الاهتمامات. إلا أن تأجير «المشاهير» له جانب آخر سلبي كما لاحظت، هو الإساءة إلى المرشح المنافس عن طريق «الاستعانة بمشهور في الغالب مكروه وله سوابق سلبية» من أجل مدح المنافس، وبمجرد أن يفعل ذلك فإن البعض يصل إلى النتيجة المنطقية: أي مدح يأتي من فاسد يعني بالضرورة أن الممدوح فاسد أيضاً! تكنيك مختلف وجديد على الساحة، وهو نتيجة «دراسات نفسية». ليس ذلك فقط، بل إن بعض الأشخاص المعروفين بمواقفهم الحادة في القضايا العامة، عندما يقومون بذم مرشح منافس، اعتقاداً منه أو منها أنه يقلل من وزنه الانتخابي، هو في الحقيقة يضيف إليه، كما أن التعصب الطائفي من مرشح يواجه بنفس المقدار من آخرين من الطائفة الأخرى.
الظاهرة التي لا تزال ملازمة للحملات الانتخابية هي «اضطراب هوس الشهرة» المشار إليه آنفاً، فعدد من المرشحين الذين يستهويهم الترشيح رغم تجربتهم السلبية ظاهرة ما زالت قائمة، كما أن ظاهرة «الفجور في الخصومة» تضخمت خلال وسائل الاتصال الاجتماعي، وخاصة في الحسابات المغفلة من الأسماء، وهي ظاهرة أخرى تواكب «المعركة»، وقد سهّل ذلك ما يعرف بـ«الفوتوشوب» الذي يمكن من خلاله تركيب صورة على أخرى أو كلام على آخر!
ربما تفرز هذه الانتخابات قوة «وازنة» من الشباب، وربما أيضاً تحصل المرأة على نصيب من المقاعد، فالمزاج الذي خرجتُ به من عدد من الزيارات للمقار الانتخابية والاستماع إلى وجهات نظر شبابية أنه مزاج «الاعتدال» ورفض «المزايدة والتعطيل» الذي اتسم به الزمن الماضي، في العشرية السابقة وكان زمن المناكفات التي ضيعت على البلاد الكثير من الفرص، في وقت يتصف بعدم استقرار إقليمي وتشتت دولي، وحتى نهاية الأسبوع سوف يعرف المجتمع الكويتي من هو «الجليس» «الصالح» على المقعد الأخضر!
على الرغم من النقد الموجه من «الكبار» للجيل الجديد، فإن ملاحظتي أنه جيل «واعد» تقني وواعٍ بمشكلات مجتمعه، يتطلع لتحقيق هدفين (أراهما صعبين)؛ الاستقرار والإصلاح. وذلك لن يأتي إلا من خلال قيادة حكيمة للمجلس القادم، تتصف بالخبرة والحيادية والبعد عن المزايدة، والأهم عدم التدخل الشائن في الأعمال التنفيذية، وهي قد تكون القوة المرجحة للسير في الإصلاح المستحق الذي طال انتظاره.
آخر الكلام:
على المجلس القادم مهمات كبيرة، إن لم تتحقق، قد تتسع مساحة عدم الثقة بينه وبين الناس.