إيران.. صناعة المليشيات وتفتيت الدول
ما يحدث مؤخرا في العراق مرحلة قد تكون الذروة ما قبل الأخيرة لالتهام الدولة العراقية وتفتيتها.
الصدام المعلن بين المليشيات الإيرانية وبين الدولة العراقية بغض النظر عن رئيس وزرائها، هو مرحلة الابتلاع الأخيرة التي يعقبها فرض أمر واقع تكون فيه المليشيا هي الدولة وتكون الدولة خادمة في بلاط من صنع المليشيا.
أزمة العقل العربي، أنه عقل يرصد منعزلا، بمعنى أنه غير قادر على الربط بين منهجية المليشيات خلال الأربعين عاما الماضية، فهو ينظر إلى المليشيات باعتبارها تحركا منفردا منعزلا، تمثل كل مليشيا قضية بذاتها مع أنه إذا ربط بين تدرج انتشار المليشيات، سيكتشف أن المنهجية واحدة وأن اليد التي صنعت واحدة أيضا.
بقليل من المقارنة بين ثلاثة نماذج، يمكن لنا كشف الكثير عن المخفي في مخططات إيران لتفتيت وهدم الدولة الوطنية العربية.
النموذج الأول: هو “مليشيا حزب الله لبنان”.
النموذج الثاني: “مليشيا الحوثيين أنصار الله في اليمن”.
النموذج الثالث: “مليشيات العراق، العصائب، كتائب حزب الله، الحشد الولائي”.
المراحل التي أنتجها كل فصيل تكاد تكون واحدة، وتعتمد على فكرة الزمن والنفس الطويل، وهو ما يمكن أن نطلق عليه في أدبيات الإرهاب، تربية وتنشئة وزراعة الخلية عبر اختيار قيادات من الشباب صغير السن وزرع المعتقدات داخله ليكبر بها وتكبر به، وفي النهاية يكون قادرا على تنفيذ الغرض الأخير وهو الالتهام والتفتيت.
مليشيا حزب الله لبنان تقع بين مرحلتين مهمتين؛ الأولى مرحلة النشأة والتأسيس منذ 1985، مرورا بصبحي الطفيلي وعباس الموسوي وصولا إلى الشاب الصغير وقتها حسن نصر الله.
أما المرحلة التي تمثل الذروة هي مرحلة الالتهام، وهي تؤرخ بليلة السابع من مايو/أيار 2008، ليلة احتلال لبنان كدولة في يد المليشيا، وما نتج بعد ذلك من تحول الأدوار والمقاعد وأصبحت المليشيا هي الدولة وأصبحت الدولة لا شيء.
نفس الشيء ينطبق تماما على مليشيا “الحوثيين” التي صنفت على أنها حركة دينية سياسية مسلحة بدأت بالنشأة عام 1992 ثم دخولها في مواجهات مع الدولة منذ عام 2005 حتى الثورة اليمنية عام 2011، وصلت إلى خمس حروب طاحنة.
ومنذ عام 2011 دخلت المليشيا مرحلة التهام الدولة وتفتيت المؤسسات حتى وصلت إلى مرحلة الذروة وهي 19 يناير عام 2015، حين هاجموا قصر الرئيس هادي وحاصروه وفرضوا عليه إقامة جبرية، نتج عنها إجبار الرئيس على تقديم استقالته هو ورئيس الوزراء خالد بحاح.
تلك كانت الذروة التي من أجلها تأسست المليشيا، والغريب أن العمر الذي ستصل فيه المليشيا المصنوعة في إيران إلى مرحلة التوحش والتغول واحد، فعمر مليشيا حزب الله لبنان منذ 1985 حتى 2008 ليلة احتلال بيروت هو 23 عاما. وعمر مليشيا الحوثي منذ التأسيس 1992 حتى 2015 ليلة الانقلاب واحتلال صنعاء هو 23 عاما. العمر الزمني للتغول هو متوسط العشرين عاما، تلك المرحلة الزمنية التي تكون فيها المليشيا قد وصلت إلى ذروة تغولها لابتلاع الدولة الوطنية.
نفس العمر يمكن لنا أن نقيس به مدى وصول المليشيات في العراق إلى مرحلة بداية التوحش، ثمانية عشر عاما هي عمر تربية وتأسيس المليشيات في العراق، إذا قسنا مرحلة التغول الفارسي في العراق ما بعد 2003 ثم صناعة الدستور العراقي 2005 وما تلا ذلك.
ثمانية عشر عاما توالى على صناعة المليشيات في العراق كثير من الأيادي الإيرانية كل لعب دوره، ووضع بصمته، كان قيس الخزعلي زعيم العصائب وقتها يبلغ من العمر 29 عاما، وهو مواليد عام 1974 بعد أن قضى نصف عمره تماما في المزرعة الإيرانية للتفريخ، يمكن له الآن أن يقود ويؤدي، ربما يكون نفس العمر الذي قضاه، أبو علي العسكري “حسين مؤنس فرج العبودي” القيادي في كتائب حزب الله العراق، الذي صدرت بحقه مؤخرا مذكرة اعتقال بعد تهديده لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وبعد أن اتهم في التورط في اغتيال الخبير الأمني هاشم الهاشمي.
هكذا ينطبق الأمر أيضا على “أبوجهاد الهاشمي” الذي يقوم بدور الوساطة أو حامل الرسائل من الحكومة العراقية إلى إيران لتهدئة الأمور، فهو المقرب من إيران منذ منتصف الثمانينيات أيام حرب السنوات الثماني، حين تأسس المجلس الأعلى الإسلامي وجناحه العسكري “منظمة بدر”. وهو الذي تولى إدارة مكتب عادل عبدالمهدي حين كان رئيسا للوزراء.
تذكيرنا لمنهجية الممارسة للمليشيات في لبنان واليمن، يجعلنا نتأكد أننا أمام مرحلة فاصلة وشديدة الخطورة بالنسبة لمسار المليشيات في العراق، هي مرحلة بداية الالتهام والتفتيت للدولة، ولعل تصريحات الكاظمي تجعلنا نشعر بأن الرجل مدرك لتلك الحقيقة وهي “تفتيت الدولة العراقية الأم وليس عداء لمصطفى الكاظمي نفسه”.
تلويح الكاظمي بأنه إذا اضطر للمواجهة مع المليشيات سيواجهها بكل قوة يجعلنا نتفاءل قليلا بأن هناك مَن يحول دون إتمام المؤامرة الإيرانية لهدم الدول العربية وتخريبها.
إيران تستخدم الآن جميع أسلحتها المليشياوية وأيضا سلاح الحصار الاقتصادي والتجويع، وتهديدها مؤخرا بتقليل حصة الغاز المصدر من خمسة أطنان إلى ثلاثة أطنان فقط، يجعلنا ندرك أن المؤامرة أكبر بكثير وقد تضطر إيران إلى التصعيد العسكري على الأطراف، إذا ما أحست أن محاولتها فشلت في الهدم من الداخل وقتها تبدأ خطتها الأخيرة، وهي الهدم من الخارج ولديها ذاكرة حاضرة منذ حرب السنوات الثماني مع نظام صدام حسين.